في ممارسة الحياة والعمل

عيش في أكثر من عالم واحد – كيف ولماذا؟

يجسد دراكر قيمة صنع وعيش (حياة تامة) من خلال ما كان يمارسه من التنوع الواسع للاهتمامات والعلاقات والمسارات المهنية، أو ما كان يسميه (العيش في أكثر من عالم واحد.. وبهذه الطريقة.. عندما تصيب المرء نكسة في مجال ما (كأن يسرح من عمله، أو يكابد العيش في بيئة يخيم عليها شبح التسريح) فإنه يستطيع تخفيف تلك الصدمة من خلال تطوير مجالات قوة ودعم أخرى.. ويمكنك أيضا أن تضيف لحياتك معانٍ وأبعادٍ جديدة من خلال نشاطات متنوعة، مثل العمل التطوعي، وتغيير مصائر ومعايش آخرين من المحتاجين، أو المنكوبين المحاصرين لكارثة أو فقر أو مرض أو عدوان.

كيف تصنع حياة تامة؟

بالنظر في كتابات دراكر ومسيرته المديدة والغنية، نجد خمسة عناصر رئيسة هي:

* التطوير الذاتي: اصنع نفسك كما ينبغي لتصبح كما ينبغي

التطوير الذاتي موضوع رئيس، ينتشر طيفه في كتابات ومحاضرات دراكر، أهم ما في الأمر حسب قوله هو: “بوصول عامل المعرفة إلى منتصف العمر، فإننا سنرى كائنا إنسانيا قد تم بناؤه وإعداده ليكون شيئا آخر أكثر من محاسب ضريبي أو مهندس هيدروليكي.. فكر في حياتك حيث أنت الآن، وحيث تريد أن تكون، لا تحصر هذا التفكير في عملك فحسب، بل فكر في مكونات حياتك خارج العمل من (عائلة وأصدقاء واهتمامات وأنشطة، ومساعٍ جوهرية خاصة بك) احسب وقدر ما الذي سيجدي وما الذي لن يجدي، وما الذي ينبغي أن تضيفه، أو تكثر منه، وما الذي ينبغي أن تتخلص منه حتى تولد في حياتك مزيدا من الرضا والإنجاز.. استكشف.. أوجد.. وعزز ذخائر قوتك الجوهرية..

* لا تضع أرصدة حياتك كلها في رصيد واحد.. استعد للمضي في مسارات متنوعة..

يقول دراكر: “إن غاية العمل في صناعة المستقبل.. ليست تقرير ما ينبغي القيام به غدا، وإنما تقرير ما ينبغي أن نقوم به اليوم حتى يكون لنا غد..” من أبرز الأفكار التي كان يدعو لها دراكر فكرة إيجاد مسار مهني ثانوي في مجالات مثل التعليم والكتابة والعمل في المنظمات غير الربحية، كما كان يشجع على إيجاد مسار مهني (رئيسي ثاني) من خلال قيام المرء بعمله الحاضر في مجال آخر مختلف.

فعلى سبيل المثال يمكن للمحامي أن ينتقل من مكتب أو شركة المحاماة التقليدية إلى مؤسسة قانونية غير ربحية، مخصصة لخدمة قضية يؤمن بقيمتها.. بينما أنت في وظيفتك الرئيسية.. ابدأ في التفكير في إمكانية المضي في مسارات جانبية، أو رئيسية إضافية، انظر في مدى انسجامها مع قيمك وتجاربك، وثقافتك وانظر في التحولات التي ينبغي أن تجريها في حياتك حتى ينجح سعيك في تلك المسارات..

* واصل العطاء بسخاء

كان دراكر يعتقد أن ممارسة شكل من أشكال العطاء السخي جزء جوهري من العيش في أكثر من عالم واحد، ويقول في ذلك: “كل إنسان قائد، كل إنسان مسؤول، كل إنسان لديه ما يقوم به*..) إن مشاركتك بوقتك ومواهبك في مجالات عديدة مثل العمل التطوعي الريادة الاجتماعية، وتقديم الرعاية والإرشاد.. ليست مجرد نوافذ للعطاء فحسب، بل هي مصادر عظيمة لمنفعة نفسك، فمن خلالها مثلا تمتد وتتعمق تجربة حياتك، وتتوسع دائرة أصدقائك ومعارفك، فكر في ما يحدث خارج مكان عملك، وابحث عن طرق لممارسة العطاء.

* ثابر على التعليم والتعلم

في تصور دراكر الطموح لمجتمع قوي فاعل.. تلعب الثقافة دورا محوريا.. كان يعتقد أن العاملين المعرفيين ينبغي أن يبدءوا التعلم من عمر المدرسة، ثم يمضوا فيه دون توقف طيلة حياتهم، ويلاحظ دراكر إن إدخال التعلم المستمر كجزء طبيعي من حياتهم اليومية يبقى بشكل رئيسي مسؤولية أولئك العاملين.. راجع أولويات تعلمك، وفكر كذلك في أفضل الطرق لتعلمك من حضور دورات أو مطالعة المقالات والكتب، أو مناقشة ومراقبة الآخرين وهم يعملون..

* ابدأ الآن من حيث أنت

إن أسرار النجاح التي يقدمها دراكر سوف تساعدك في جعل حياتك وعملك أكثر إرضاء، وأكبر قيمة ومعنى، وأغنى اتساعا وتنوعا، فهناك سبع خطوات للانطلاق في تطبيق تلك الأسرار هي:

1- ركز على الإنجاز لا على المال: لا يعني دراكر من هذا التمييز الواضح بين الإنجاز والمال ضرورة عدم تمكن أو عدم إرادة المرء جمع المال، وإنما يعني وجوب أن يكون السعي لتحصيل المال هو المسار الثانوي.

2- خصص للتفكر وقتا.. إن تركته لأوقات الفراغ فلن تجده ولن تجدها: التفكير عمل شاق.. وفي عالمنا المتسارع كثيرا ما يهمل وتضمحل قيمته.. الأمر المهم هنا: هو الجهد والتصميم على التحرر من طاحونة الأعباء والمشاغل اليومية، والتوقف كي تفكر: أين أنا وإلى أين أمضي؟ قد لا تجد الرغبة أو الإمكانية للقيام بسياحة طويلة إلى البراري، ولكن ليس هناك أي عذر يبرر عدم تخصيصك ساعة بين الحين والآخر من أجل التأمل العميق بنفسك في نفسك، وليس هناك ما يمنعك من ممارسة تمارين الاسترخاء والتفكر والتجول المريح في أحضان الطبيعة.

3- تعلم التراجع عما لا يفيد.. كي تستطيع التقدم في ما يفيد: يقول دراكر أصحاب الكفاءة والفاعلية إنما هم كذلك.. لأنهم يعرفون متى يقولون لا.. ومتى يقلعون.. يعرفون كيف يقررون لأنفسهم القيام بهذا لا ينفعني أو لا يناسبني، مارس ما يسميه دراكر (المفارقة المخططة) بين الحين والآخر، تريث واخطُ إلى الوراء قليلاً.. انظر بعمق، واتساع؛ كي تقرر من بين ما تقوم به الآن.. ما النشاطات التي يمكن تقليصها أو إلغاؤها، عندئذ وحسب.. يمكنك أن تجد الفسحة للقيام بأشياء أكثر وأفضل إثمارا، مثل التعليم والتعلم والتطوع.

4- تطوع بوقتك وموهبتك: من تجربة حياته كان دراكر يرى العمل التطوعي عنصرا رئيسيا في أداء المجتمع لوظائفه أداءً حسناً وكان يراه طريقا تملأ النفس بالرضا، وتضمن عدم استهلاك العمل كل أيام عمرك. في كل مجتمع توجد اليوم مئات وآلاف المنافذ للعمل التطوعي، ونصيحة دراكر هي: ابحث عن منظمة عاملة تحترمها وقضية تؤيدها.. ثم شمر عن ساعديك..

5- ارع آخرين كما يرعاك آخرون: الرعاية الإرشادية أوسع من مجرد تعريف العضو الجديد على المداخل والمخارج والسياسات والتحالفات في فريق أو في مؤسسة، يمكن أو ينبغي أن تتسع هذه الرعاية لتضمن نصحا شاملا في كل مراحل المسيرة المهنية، وكل آفاق الحياة.. رعاية وإرشاد الآخرين لا تفيدهم وحدهم، بل هي تفيد الراعي المرشد مثلهم أو أكثر.. لا تمشِ وحدك.. ابحث عمن يرشدك.. وابحث عمن ترشدهم.

6- أتقن فن الاستراحة والتحلل من العمل: في هذه الناحية ينبه دراكر إلى سهولة الاستراحة الظاهرية (تحلل اليدين من العمل) وصعوبة الاستراحة الحقيقية (تحرر الدماغ والقلب) لا جدال في أهمية العمل، ولكن إياك أن يصبح هذا العمل المصدر الوحيد لشعورك بالانجاز ومعنى الحياة، أوجد لنفسك اهتماما أو اهتمامات خارجة عن العمل، وركز على الأشياء التي تجلب لك السعادة والرضا، وتجدد شعورك بقيمة ذاتك..

7- كن المدير التنفيذي الأعلى لحياتك: يعتبر دراكر إدارة الذات منهجا متواصلا يتطلب القيام به معرفة المرء بنفسه، وتمحيص القيم والدوافع، وتحم المسؤولية الشخصية، وبالنتيجة تتطلب إدارة الذات قيام كل عامل معرفي بالتفكير وبالتصرف وكأنه مدير تنفيذ أعلى لنفسه.. ابدأ منذ اليوم بالنظر إلى نفسك كمدير أعلى لحياتك ومسيرتك المهنية، وتحمل مسؤولية قراراتك وتصرفاتك.. اعرف من أنت، ما المهم لديك؟ وكيف ستقدم؟ وماذا ستقدم لعملك؟ وللعالم من حولك؟

أخيرا.. وليس آخر..

تحلَّ بالهدوء والصبر، ولا تتوقع حدوث كل ما ترجوه دفعة واحدة، انطلق الآن من حيث أنت نحو حياتك التامة خطوة بعد خطوة..

الإعلان

One comment

انشر تعليقك

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s