في قريتنا العتيقة (ارحابا).. وقبل أكثر من ثلاثين سنة، كان فيها ثلاث معاصر للزيتون، ومطحنتان للحبوب، وأفران لتطويع الحديد بالنار، وكانت هناك درّاسة الحجر ودرّاسة الحبوب التي يقودها زوج خالتي، وكانت تزور القرية طحانة للقماش (الشرايط) وتحويلها إلى ما يشبه الصوف..
كنا نستيقظ على صوت الديك، وتتبعه أصوات قطعان من الإغنام والأبقار وأجراس تيس الأغنام وثور الأبقار حينما كانت تعبر الطرقات الضيقة ذاهبة صباحا لتعود مساء شبعى ومدرة للحليب.. وترى الراعي أو الفلاح يركب دابته مسدلا رجلية على جانب منها أو على جانبيها ويستعملهما كمحفزات لسرعة الدابة وبيده رسنها وبالأخرى عصا، وكان في الخرج عبوة ماء وقليل من الطعام يكفيه طيلة اليوم.. وكانت الدابة التي تُقله ما بين حمار أو بغل أو حصان ولا فرق في ذلك بين ذكورها أو إناثها..
في الشتاء يذهب الفلاحون لفلاحة الأرض يحرثون ويبذرون ويرزعون، وتليها مرحلة الاعتناء والرعاية حيث قلوبهم تنبض مع نبض تلك المزروعات يحصون حبات المطر عليها قطرة قطرة، يتفاءلون أو يتشاءمون بمقدار كمية المطر المنهمر من السماء، وذلك حتى يأتي موسم قطافها.. فينتشر الرجال والنساء، والأولاد والبنات هبة واحدة كل يشارك في جانب من القطاف أو الحصاد أو النقل.. وكان هناك من الفلاحين الأذكياء الذين يذهبون شرقا وغربا للإتيان بأصناف جديدة من النباتات والحبوب ومنها الفاكهة بأنواعها المختلفة من تفاح وأجاص وخوخ ولوزيات ومشمش وغيرها الكثير، وكل نوع يندرج تحته أصناف عديدة..
كانت أيام قطاف الزيتون أياما جميلة، ورغم بدائية الأدوات والتي لم تتطور كثيرا حتى الآن والمكونة من شادر يمهد تحت الزيتونة، وسلم يصعد عليه أحد الفريطة، لقد كانت أياما مليئة بالنخوة والتعاون والشهامة والتصافي والتصالح ومشاركة الطعام والشراب وحليب الأغنام والأبقار وألبانها، أياما دافئة بعاطفتها، متقلبة بأجوائها، فرياحها شرقية جافة، وغيومها غير مأمونة، لا يمكن التنبؤ بها، فإن أمطرت استوحل الفلاحون في أرضهم، تتبلل ثيابهم من غطاء الرأس حتى أخمص القدمين، ترى الفلاح أو الفلاحة مهرولين بمعزوفات تعبر عن فرح للموسم القادم ودعاء بغسيل الزيتون من الغبار وراحة لليوم التالي مع شيء من الحطب الذي تحمله النسوة على رؤوسهن وشيء من الحب لأبنائهن المنتظرين في البيوت..
لم يكن هناك ما يروق للفلاح في أرضه أكثر من كوب من الشاي المغلي على نار الحطب، بذلك الإناء الذي تكسوه طبقة من الأدخنة تغير لونه إلى الأسود اللامع، ويضيفون على الشاي ما يشاءون من أوراق النعنع أو الميرمية أو الزعتر أو غيرها.. وكلها قد نبتت في حواكيرهم وكرومهم..
وإذا جاء الحديث عن نبتة البندورة التي احتار الناس في تصنيفها بين فاكهة أو خضار، فهي لم تنبت بنفس الطعم في مكان آخر، كانت بندورة رحابا ذات الأشكال غير المنتظمة تحوي بداخلها سلسلة من اللؤلؤ ذي اللمعة الناصعة، التي تغري قاضمها بالاستمرار في الالتهام، وكانت أمي تخبئ قليلا من بذور البندورة لزراعتها للموسم القادم، وكانت تحفظها بقليل من الرماد إلى حين موسم زراعتها لتنبت على شكل أشتال يتم اقتلاعها من مكان زراعتها لتزرع في مكان آخر.. لقد كان الحوض الصغير الذي يحوي الأشتال يزرع حقلا كبيرا بالبندورة..
لا أريد أن أصف طعم تين الجنة الذي ينبت في قريتنا، فليس لطعمه مثيل، هو فعلا من جنة الله على الأرض، كنا أيام طفولتنا نرقب الحبة الواحدة أياما وأياما حتى يأتي يوم تندى في الأجواء فينضج التين ووتتمزق قشرته، ويصفه الفلاحون بأنه مشطب أي ناضج، وذو طعم لا يمكن وصفه، فهو غير موجود في مكان آخر..
كان الحاج سليمان الطبش وآخرون يجمعون إنتاج القرية الزراعي في شاحناتهم الصغيرة مع غروب الشمس ويذهبون به إلى (الحسبة) سوق الخضار المركزي لبيعه قبل الفجر، وفي اليوم التالي يتم تسليم ثمنه لأصحابه.. ولا يعلمون ما الذي سيقبضونه إلا بعدما يتم تسليمهم النقود والفواتير، وتخصم منها أجرة النقل والكمسيون..
وعندما قلبت الصفحة، لم يعد في قريتنا أية معاصر زيتون، و لا مطاحن للحبوب، ولا أفران لتطويع الحديد..
أصبتحت الأرضي الزراعية تتآكل من قبل الوحش الاسمنتي، وتتناقص مساحاتها.. حتى البركة تقلصت من الأرض.. ولم يعد يسير في الشارع بل بالشوارع سوى تلك السيارات، ولم نعد نسمع أصوات مألوفاتنا من الحلال.. ولم يعد شيء يميز الفلاح ولا الفلاحة، ولم تعد تلك الملابس الدالة عليهم موجودة، وأصبحت أعداد الفلاحات محدودة، وأما الفلاحين فلم يعودوا يلبسون المزنوك، وأصبحوا يلبسون الفوتيك للعمل..
لم تعد قربتنا العتيقة قرية، ولم يعد هناك ما يميزها عن غيرها، وإن كان هناك شيء من العنب أو الزيتون والتين ونبات الصبر فهو قليل لدجة أن أبناء القرية أصبحوا يشترون حاجاتهم من أسواق المدينة، رغم أن القرية هي من كان ينتجها..
وداعا يا ثوب القرية العتيقة.. وداعا للمحراث الخشبي الذي كان يصنعه خالي.. وداعا لأشواقي لك أيتها القرية، وداعا لتلك الصور الخالدة التي حفرتها في مخيلتي.. وداعا وداعا..
للإطلاع على التعليقات يرجى النقر على الرابط التالي: