القرية تعتني ببيوتها

بعد شتاء طويل، وبعد أن كانت النسوة في بلدة ارحابا كغيرهن في القرى والبلدات الأخرى، تقتنص يوما مشمساً لتهوية البيت والفرش واللحف والبطانيات والمخدات.. من الصباح إلى ما بعد الظهيرة.. يأتي دور تبييض البيوت..

لقد أفسدت أدخنة نار الحطب بهاء البيت من الداخل، وأصبح لونه داكنا وصبغ سقفه المصفح بالقصيب باللون الأسود لون الدخان..  كما تركت الأمطار أثارها على البيت من الخارج، لقد حان موعد العناية بالبيت بالتبييض والتطيين..

images (1)

صورة رمزية لبيت قديم

كانت أولى خطوات هذه العملية اصطياد يوم دافئ، فالأسرة عليها ترك البيت لمدة يوم أو يومين، مما يضطرها إلى المبيت خارج البيت المراد العناية به، لقد كنا ننام في (قاع) البيت وهو المكان الذي يقابل باب الدخول والخروج من البيت وهو يشبه (التراس) في أيامنا هذه، وكان بالعادة مشيدا بالإسمنت مسطحاً دون جدران للوقاية من وحل الشتاء أو الأتربة التي تثيرها الأقدام في الفصول الأخرى..

كانت البيوت طينية، تبنى من قطع حجرية بما يستطيع الرجل حمله أو أصغر، وكانت تُملأ الفراغات بالطين، وهو تراب من نوع معين مخلوط بقليل من التبن ليزيده تماسكا بعد الجفاف.. لكن لون هذا الطين لا يبدو بهيا، فهو يميل إلى اللون الرمادي الغامق في كثير من الأحيان، والذي يتم تبييضه لاحقا، وكان يترك للبيت باب ونافذة أو اثنتين، وأحيانا بابا إضافيا صغيرا.. وكانت هناك حجارة خاصة للأبواب والوافذ تتم معالجتها من قبل الحجارين وتقطع بطريق مناسبة لتكون إطارا للباب أو النافذة..

كانت جاراتنا وصديقات والدتي يجتمعن بعد أفول فصل الشتاء، ويذهب إلى أحد جبال بلدة ارحابا (جبل الجحيف) وصخوره من الحثان وهو طري قابل للحفر ومن ثم الطحن والذوبان بالماء، ويصبح الخليط منه أشبه بمادة الشيد التي تطلى بها سيقان الأشجار لمكافحة بعض الحشرات والنمل..

كانت النسوة يذهبن إلى حيث وجود هذا النوع من الصخور التي تشبه التربة المتيبسة، وكانت كل واحدة تحمل معها كيسا أو أكثر إضافة إلى أداة تسمى القدوم، وهي صفيحة حديدية بحجم نصف الكف، ولها موضع عصا، توضع بها عصا بطول وحجم عصا المطرقة (الشاكوش)، ويطرق الصخر بهذه الأداة (القدوم) وتجر المفتت منه إلى الخارج..

وبعد أن تمتلئ الأكياس، وتعود النسوة إلى بيوتهن يحملن تلك الأكياس على رؤوسهن أو على ما توفر من أدوات النقل المتوفرة آنذاك وكان (الحمار) هو الأكثر انتشارا، وبعد يوم كامل من العمل أو نصف يوم، يبدأن بالتحضير للطلاء..

كانت تطحن القطع الحجرية الصغيرة التي تم إحضارها بحيث تصبح مسحوقا كالدقيق (الطحين) ثم تضاف عليها كمية من الماء تسمح بذوبان المسحوق، وتخلط بالماء لفترة تسمح بامتزاجها به وكأنها فترة اختمار، ويصبح بعد ذلك كاللبن بكثافة مناسبة..

كانت النسوة تتولى عملية التبييض بالدرجة الأولى، وكانت مشاركة الرجل محدودة، فهو مشغول بالحقل أو العمل بالخارج.. وتبدأ عملية التبييض بوضع كمية من الخليط في وعاء معدني كالدلو له مقبض من أعلى ليعلق بالسلم الذي تصعده تلك المرأة بينما الأسرة كلها في حالة طوارئ، وكان بيدها مقشة، وهي أغصان من نبات (اللبنى) تقص بطول نصف متر تقريبا، وتحزم لتصبح بحجم رسغ اليد، ويكون طرفها الخلفي عند المقبض أكثر غلظة وقسوة من طرفها الأمامي الذي يتميز باللين والمرونة كونه يعتبر من رؤوس الأغصان..

كانت المرأة تغمس المقشة بالخليط ثم تنقله وتمسح جدران البيت الداخلية به من على السلم، وتنقل السلم من مكان إلى آخر حتى انتهاء عملية الطلاء، وكان السقف يؤجل إلى عام آخر لأنه يتطلب أدوات يصعب تأمينها في ذلك الحين مثل (السيبة) وهي السلم المزدوج الذي تركن إحدى جهتيه على الجهة الأخرى ليصبح مثل شكل الهرم بدون قاعدة..

وبعد الانتهاء من دهان (لب) البيت يبدأ دهان الواجهة الأمامية دون الواجهات الأخرى التي تعالج بطريقة مختلفة..

وللمحافظة على الدهان وعلى الجدار من أية أضرار ناتجة عن احتكاك الأفراد أو الأشياء بالجدران، أو انتقال الدهان إلى الملابس، كانت الأسر تلجأ إلى تلييس الجزء السفلي من كل جدار بالإسمنت على ارتفاع يزيد عن المتر، وكانت الطبقة الإسمنتية المخلوطة بالرمل الناعم لا تزيد في سمكها عن نصف سنتمتر إلا أنها تقي الجدار من التحفير وتحفظ الفرش والملابس من الاتساخ باللون الأبيض الذي تم الطلاء به..

أما الجدران من الخارج، فقد كانت الأسر بين الحين والأخر، وخاصة بعد مواسم الأمطار الغزيرة تقوم بعمل عجينة ترابية مخلوطة بالتبن ويصب عليها قليل من الماء بحيث تصبح كالعجين، ويتم وضعها على الأماكن المهددة من الخارج سواء بالتحفير أو الشقوق الناتجة عن العوامل الجوية..

وفي حين آخر، يأتي دور الأرضية التي كانت تسمى (المصطبة)، فهي أيضا تحتاج للصيانة وإعادة التمليس، كان يحضر الإسمنت مع قليل من الرمل لملء الحفر في مصطبة البيت، ثم تأتي عملية أخرى تسمى التمليس، بحيث تقوم المرأة بخلط كمية من الإسمنت الصافي بكثافة مناسبة، ثم سكب كمية منها على المنطقة المستهدفة، ثم تقوم بالتمليس بحجر يطلق عليه اسم (المملس) وهو ذو شكل بيضاوي ناعم أكبر من حجم قبضة اليد، وتقوم المرأة بدلك الاسمنت على الأرض حتى تصبح المصطبة ناعمة ويسهل عملية تنظيفها بالشطف بالماء أو الكنس بالمقشة..

كانت هذه هي الطريقة التي تتبعها معظم الأسر في العناية بالبيت وحمايته لأطول فترة ممكنة، إلا أن هذه البيوت هجرت الآن وهدم معظمها، حتى البيت الذي كان لدينا هدم منذ عام 2005 تقريبا، بعد أن تم هجره منذ عام 1980م..

هذا الوصف يلائم الفترة المعيشية بلدة ارحابا والقرى والبلدات المشابهة لها حتى سبيعينيات القرن العشرين تقريبا..

13/ 1/ 2013

الإعلان

انشر تعليقك

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s