الثلج يكسوها..
تعتبر بلدة ارحابا من المناطق الجبلية المرتفعة بنحو ألف متر عن سطح البحر، بعض أجزائها يزيد وبعض آخر ينقص عن ذلك.. ففي فصل الشتاء غالبا ما ترتدي البلدة ثوبها الأبيض، نعم تتساقط الثلوج بأنواعها المختلفة على البلدة لتكسوها لعدة أيام وقد تمتد لأسابيع..
ونعمة الثلج الذي ينزل يكون على نوعين.. الأول وهو كتلة ماء متجمدة، منها ما هو صغير ومنها ما هو متوسط الحجم ومنها ما هو كبير، فأما الصغير فيطلق عليه اسم الرميلة، وهو حبيبات ثلجية صغير جدا بحجم حبة السمسم، وبه تبدأ العواصف الثلجية، وشكل آخر أكبر منه حجما لكنه أصغر من البرد والشكل الأخير وهو البرد والذي يكون عادة بحجم حبات الحمص أو أكبر.. وأما النوع الثاني، فهو النفش، وهو كتل ثلجية قليلة الكثافة تسقط على شكل قطع قطنية، وتكون بطيئة النزول على الأرض، ومنها ما هو كبير يقال عنه أذان القطط، ومنها ما هو صغير، لكن النتيجة دائما تكون واحدة، ثوب أبيض واسع نقي صفي ناصع.. إلا أن طعم النوع الأول (الرميلة والبرد) يكون مستساغا أكثر النفش، وبه كمية أكبر من الماء..
جانب من بلدة ارحابا خلال الثلج
كنا نفرح كثيرا عند سقوط الثلج رغم العواقب الوخيمة التي ترافق ذلك من قطع للكهرباء وإغلاق للطرق وأعطال في الشبكات المختلفة.. ويستمر تساقط الثلوج لعدة ساعات قد يمتد لعدة أيام.
بعد أن يتوقف سقوط الثلج.. تذهب الغيوم ويبقى الثلج.. وتنبلج الشمس، وتكون السماء صافية غامقة الزرقة، مع نسمات خفيفة وباردة قارصة بسبب مرورها فوق الثلج.. وهنا، تبدأ فرحة الأطفال..
يخرج الأطفال خاصة من سن السابعة وما فوق تقريبا (حسب تأثير الأسرة) يخرجون إلى الشوارع وجنبات الطرق للعب بعد انحسار خلال سقوط الثلج، وكنا في طفولتنا نمارس العديد من الألعاب الثلجية التي لا تتكرر إلا في مثل هذه المواسم، ومنها:
لعبة الزحلقة:
فقد كنا نقوم بإحضار كيس بلاستيكي، ونذهب إلى منطقة مرتفعة، كان جبل الجحيف نموذجا لذلك.. ثم نضع الكيس على الثلج ونفرده، ثم نجلس عليه ممسكين بمقدمته بيدينا، وننطلق من المنطقة المرتفعة إلى المنطقة المنخفضة، وكان لا بد لأحدنا أن يفتح طريقا للزحلقة.. وبعد ذلك يبدأ الأطفال الأخرون بسلك نفس الطريق، حيث كنا ننزلق بسرعة نحو الأسف دون أن يكون لنا سيطرة كافية على مسار الزحلقة سوى تلك الطريق التي نسلكها، فقد كنا ننحرف أحيانا يمنة ويسرة، وقد يتغير اتجاهنا بحيث لنصبح نتزحلق بظهورنا دون أن نعرف إلى أين نستقر، وعندما نصل إلى نهاية الطريق نعاون الصعود مشيا للتزحلق ثانية.. كانت لعبة ممتعة وتعتمد على سماكة الثلج، فكلما كان الثلج سميكا فهذا يعني أن مسار الزحلقة سيبقى لفترة أطول قبل البحث عن مسار آخر..
صورة رمزية للزحلقة على الثلج
لعبة الكرة الثلجية:
وهي لعبة معروفة لدى الكثيرين، وما زالت حتى الآن اللعبة المفضلة لدى كثير من الأطفال، فهي تعتمد على كرة من الثلج تكون بحجم قبضة اليد، ثم توضع على الثلج، ويبدأ طفل بدحرجتها بيده، ثم يبدأ حجمها يكبر ليصبح بحجم كرة القدم، ويكبر أكثر وأكثر، لدرجة أن الطفل لا يعود باستطاعتها دفعا لها لثقلها، فيلجأ إلى طلب العون من الأطفال الآخرين الذين يسارعون بدفع الكرة الثلجية، وتبقى تكبر وتكبر، حتى يصل قطرها لأكثر من متر في كثير من الأحيان، وتبقى هذه الكرات صامدة إلى ما بعد ذوبان الثلوج بعدة أيام..
صورة رمزية للكرة الثلجية
الحرب بالكرات الثلجية:
وهي حرب تكاد تكون حقيقية وهي معروفة لدى كل الذين عايشوا أيام الثلوج، يقوم الأطفال وأحيانا الكبار بقبض كتلة ثلجية، ثم دحبرتها (جعلها كالكرة) ويكون حجمها بحسب حجم يد صانعها إن كان طفلا أو يافعا أو شابا.. لكنها بالعادة تكون أكبر حجما من كرة التنس الأرضي، ويقذف الأطفال أو الشباب بعضهم بعضا بهذه الكرات ولا يقتصر ذلك على الأولاد الذكور، بل تشارك البنات أيضا في ذلك، إلا أن اللؤم يراود الكثير من الأطفال، بحيث يضع بعضهم داخل الكرة الثلجية حجرا، أو يقوم بنقعها بالماء البارد شديد البرودة والذي يكان أن يتحول للثلج، ليزيد وزنها ولإلحاق الأذى أكثر بالشخص المستهدف..
صورة مزية للكرة الثلجية التي تستخدم في الحرب بين الأطفال والشباب خلال الثلج
الدب أو الرجل الثلجي:
ومعروف أن الثلج لا بد أن يكون بيئة مناسبة لصنع الدب أو الرجل الثلجي، وهو كتلة ثلجية بحجم الإنسان أو أصغر قليلة يراكمها اللاعبون، ويشكلون له جسدا ويضعون له يدين ورأس، وفي الرأس توضع عينان وأنف وفم وأذنين، وكل واحد من الأطفال يختار الشكل الذي يحبذه، فمنهم من يجعله صغيرا ومنهم من يجعله كبيرا، وآخرون يلبسونه ثيابا أو يضعون جزرة أنفاً له، وبما يدخل السعادة والبهجة على نفوسهم..
صورة رمزية لرجل الثلج
هل تتذوق طعم الثلج..؟
خلال موسم الثلج، لا يمكنك إلا أن تتذوق الثلج، وكان بعضنا يتفنن في ذلك، وكان حبيبات الثلج (الرميلة) الصغير هي الأنسب والأزكى طعما للثلج، إلا أن بعضنا كان يهتم بأكل الثلج بطرق مختلفة، حتى أننا كنا نضعه في إناء صغير، ثم نضيف عليه كمية من السكر ونأكله، لقد كان لذيذا جدا، ويشبه طعم السلاش إلى حد ما..
العصافير لا تسلم من شر الأطفال والشباب
وكان لبعض الأطفال والشباب طرق أخرى في استثمار أوقات الثلج، فيقوم بعضهم بتفتيت السيجارة وإخراج ورق التبغ من داخلها ونقعه بالماء حتى ينتفخ، ويصبح رطبا.. ثم ينثر على سطح الثلج، ونظرا إلى أن لونه يصبح أسود فوق الثلج، فإن العصافير تحاول التقاطها من الجوع، وما أن تلتقطها العصافير حتى تبدأ بالنعاس ومن ثم النوم، فيقوم (الصيادون) بأخذ هذه العصافير أو إطلاق سراحها في ما بعد، لكنها كانت طريقة الصيد في الثلج..
تحويل الثلج إلى ماء
نظرا لتجمد المياه في الأنابيب في بعض الساعات، فقد كنا نضطر إلى تعبئة بعض الأواني بالثلج ووضعها على المدفأة حتى تذوب، لتكون قابلة للاستعمال المنزلي، لقد كان كانت الأواني تستوعب كميات كبيرة من الثلج حتى تتحول إلى ماء، مما نضطر إلى إعادة تعبئتها بالثلج كلما ذاب بعضه وتحول إلى كمية قليلة من الماء.. وقد كان الأطفال هم البارعون في إحضار الثلج وتعبئة أواني تسخين الماء..
إنه الثلج، مصدر بهجة ونقاء وصفاء..
لقد كنا نستمر باللعب لساعات طويلة، فكل لحظة من لحظات الثلج لا تعوض إلى أن يرزقنا الله بثلجة أخرى، وما ذلك إلا بعلم الغيب.. هي لحظات بهجة وسعادة، لحظات متعة ولعب، لحظات خير وبركة، تصفو فيها النفوس، ونؤمن بضعفنا أمام الخالق، ونشعر بحاجتنا لرحمته وعطفه.. إنه الثلج.. مصدر البهجة والنقاء والصفاء..
خالد الشريعة
1/ 2/ 2013هـ