المدير في ميزان الموظفين

قراءة في مواقف وتجارب تعكس كفاءة القيادة

المقدمة:

ليس في تقارير الأداء ولا في بيانات الموارد البشرية، بل في زوايا المكتب الخلفية، وفي أحاديث الظهيرة العابرة، تنعكس الحقيقة المجردة: كيف يرى الموظفون مديرهم؟ موظف يتحدث عن لفتة كريمة من مديره أعادت إليه احترامه لذاته، وآخر يهمس لزميله عن خيبة أمل بعد تجاهل متكرر. وثالث لا يطلب تحسين راتبه، بل فقط أن ينقل إلى مكان لا يشعر فيه بالاختناق.

هذه الشهادات غير الرسمية، الملتقطة من هوامش يوم العمل، أكثر صدقا من أكثر مؤشرات الأداء صلابة، إنها لا تضع المدير تحت مجهر السلطة، بل تحت مجهر التأثير، وهو المجهر الأهم.

في هذا المقال، لا نبحث في صفات القائد المثالي كما تكتبها الكتب، بل نعيد رسم ملامح المدير من خلال العدسة التي يراها بها من يعملون معه، من هو المدير في ميزان الموظفين؟ كيف تتكوّن صورته؟ ولماذا يحدد هذا التصور، بدرجة كبيرة، شكل العمل وجودة العلاقات، بل وحتى الرغبة في البقاء ضمن الفريق؟

ولنتذكر دائما مقولة: ما لا يقال في الاجتماعات يقال في الممرات


أولا: المدير في عيون موظفيه

لا أحد يرى المدير كما يراه الموظف، وليس هناك صورة واحدة تنتقل بين الزملاء، بل معرضٌ كامل من الانطباعات. هناك من يراه مصدر إلهام، صوته حاضر، وقراراته واضحة، واهتمامه حقيقي. وهناك من يراه ظلا باهتا، لا يظهر إلا عند الخطأ، ولا يسمع صوته إلا في النقد.

بعضهم يتحدث عن “المدير الحاضر”، الذي لا يكتفي بالمتابعة بل يشارك ويحتوي ويوجه دون فرض. آخرون يصفون “المدير الغائب”، الذي لا يظهر إلا في الاجتماعات الرسمية، ويختفي تماما حين يحتاجه الفريق، وفي مكانٍ ما، هناك موظف يشعر أن مديره عادل يزن الأمور بميزان الإنصاف، بينما يشعر زميله بأن المكيال ليس واحدا، وأن الفرص توزع حسب القرب لا الكفاءة.

المسألة ليست مشاعر عابرة أو انطباعات شخصية فقط، بل هي انعكاس لتجارب يومية تراكمت وشكلت هذا الإدراك. الإدراك الذي يصنع بيئة العمل أكثر من السياسات نفسها، وووفقا لتقرير مؤسسة Gallup (2023)، فإن 70% من التباين في معدلات الالتزام الوظيفي يعود إلى المدير المباشر. وهذا الرقم لا يصف مديرا، بل يصف مناخا. يضع المدير في موقع التأثير الحقيقي، ليس كصاحب قرار فقط، بل كصانع شعور.

في النهاية، لا يسأل الموظف: هل مديرك كفء؟ بل يسأل نفسه: هل أشعر بالثقة حين أتعامل معه؟ هل أرتاح؟ هل أتطوّر؟ تلك الأسئلة الصغيرة، هي التي تشكل الصورة الكبيرة.


ثانيا: كيف تتكوّن صورة المدير في عيون الموظفين؟

صورة المدير في ذهن الموظف لا تمنح بقرار إداري، ولا تفرض بتوصيف وظيفي، بل تتشكّل تدريجيا من خلال التفاعل اليومي، والمواقف المتكررة، والقرارات التي تتخذ في لحظات صغيرة لكنها مؤثرة. إنها حصيلة السلوك اليومي لا اللحظات الاستثنائية، والمواقف العادية لا الأحداث الكبيرة.

ما يترك الأثر الأعمق في ذاكرة الموظف ليس الخطابات الرنانة أو الاجتماعات الرسمية، بل كيف يتعامل المدير حين يخطئ الموظف، كيف يردّ على سؤال بسيط، كيف يقسّم الوقت بين الجميع، وكيف يمارس سلطته حين لا يراه أحد.

بهذا التكرار اليومي، وبمرور الوقت، تتكوَن (الميزانية العاطفية) التي يقيَّم بها المدير، ويوزَن فيها حضوره المهني والإنساني معا. وفيما يلي أبرز العناصر التي تشكّل هذه الصورة، وتحدد موقع المدير داخل قلوب موظفيه قبل عقولهم:

العامل الأول: أسلوب التواصل

ليست المشكلة أن المدير يتحدث، بل كيف يتحدث، إن طريقة تواصل المدير مع فريقه تترك أثرا عميقا ومباشرا في نفس كل موظف، فهل يوضح المدير ما هو مطلوب بوضوح؟ هل يستمع باهتمام؟ هل يرد على الأسئلة بصدر رحب؟ فحين يكون التواصل واضحا ومحترما، يشعر الموظف بالأمان والاحترام، أما إذا كانت التعليمات غامضة، أو الردود جافة، أو الأسلوب متعاليا، فإن العلاقة ستتحول إلى عبء يومي على كاهل الموظفين، وقد ينتقل جزء من العبء إلى المنزل.

إن الموظفون لا يريدون مديرا يتحدث كثيرا، بل من يستمع ويفهم ويوصل الرسائل بوضوح، ويخلق بيئة يستطيع الجميع فيها أن يتكلموا دون خوف أو توتر.

العامل الثاني: العدالة والاعتراف

العدالة في بيئة العمل لا تقاس فقط بالقوانين، بل بالشعور اليومي لدى الموظفين، فهل يكرم المجتهد فعلا؟ أم أن التقدير يذهب لمن يقترب من المدير أكثر، حتى لو لم يكن الأفضل؟ وحين يرى الموظف أن زميله حصل على ترقية لا يستحقها، أو أن هناك من يعامل بلطف ويتغاضى عن أخطائه، بينما يحاسَب هو على كل صغيرة، تبدأ ثقته في المدير بالاهتزاز.

إن المدير العادل لا يساوي بين الجميع بطريقة عمياء، بل يفرق بين المجتهد والمقصر والكسول، ويمنح التقدير لمن يستحقه فعلا، كما أنه لا يستخدم العقاب بشكل مزاجي، بل يطبق المعايير على الجميع بعدل ووضوح، وحين يشعر كل موظف أن جهده ملاحظ، وصوته مسموع، وأنه يعامل بإنصاف، فإن الثقة تنمو، والانتماء يزداد، والعلاقة مع المدير تصبح أقوى وأكثر احتراما..

العامل الثالث: المشاركة في القرار

الموظفون يريدون أن يشعروا بأنهم جزء من الفريق، لا مجرد منفّذين، هل يسأل عن رأيهم؟ هل يؤخذ اقتراحهم بجدية؟ حتى لو لم يطبق رأيهم دائما، فإن مجرد مشاركتهم في التفكير والنقاش يشعرهم بالقيمة والانتماء.

إن المدير الذكي لا يحتكر القرار، بل يفتح الباب أمام أفكار جديدة، ويسمح بالنقاش، ويتقبل النقد، وهذه الطريقة لا تزيد فقط من احترام الموظفين له، بل تقوي روح الفريق وتجعل العمل أكثر تعاونا.

العامل الرابع: إدارة الأداء:

الموظفون لا يريدون من يراقبهم ليمسك عليهم الأخطاء، بل من يساعدهم على النمو، فهل يعطي ملاحظات بناءة؟ هل يشجّع على التعلم؟ هل يرى التقدم ويشيد به؟ المكافآت المادية مهمة، لكن التحفيز الحقيقي هو أن يشعر الموظف بأن جهده يقدر، وأنه يتطور وأن هناك من يلاحظ ذلك.

إن المدير الجيد لا يكتفي بتقييم الأداء في نهاية العام، بل يدعم بشكل مستمر، ويوجّه بلطف، ويخلق شعورا بأن النجاح الفردي هو نجاح للفريق كله.

العامل الخامس: الاهتمام الإنساني

في بيئة العمل، لا يحتاج الموظف إلى كلمات كبيرة ليشعر بالتقدير، بل يكفي أحيانا أن يسأله مديره ببساطة: “كيف كان يومك؟” أو “أكل أولادك بخير؟”، فالمدير الذي يلاحظ الغياب في مناسبة عائلية، أو يتذكر تفاصيل شخصية صغيرة، يرسل رسالة قوية: “أنت مهم بالنسبة لي كإنسان، لا كوظيفة فقط”.

الاهتمام الإنساني ليس مجاملة، بل هو أحد أعمدة بناء الثقة، وحين يشعر الموظف أن مديره يراه ويهتم به خارج حدود الأداء والنتائج، يتولد شعور عميق بالانتماء والولاء، ووهذا النوع من العلاقة يخلق بيئة أكثر مرونة، ويفتح قنوات الصراحة والدعم المتبادل داخل الفريق.

العامل السادس: القدوة اليومية

ما يقوله المدير قد يلهم، لكن ما يفعله هو ما يبنى عليه الاحترام، هل يصل في الوقت الذي يطلب من الآخرين الالتزام به؟ هل يعتذر إذا أخطأ؟ هل يطبق على نفسه ما يفرضه على الفريق؟ إن الموظفين يراقبون التفاصيل أكثر مما يقال، وهم يتعلمون من سلوك مديرهم أكثر مما يتعلمون من تعليماته، فحين يرى الفريق أن مديرهم يتصرّف بثبات، ويتحمّل مسؤولية قراراته، ويحافظ على القيم في غياب الأضواء، فإن احترامهم له لا يكون منصبا بل موقفا.

وبناء على ذلك، فإن المدير القدوة لا يكون مثاليا، لكنه يكون صادقا، وعادلا، وملتزما، ومن هنا تنشأ الثقة الحقيقية التي لا تفرض، بل تكتسب.

هذه العوامل تؤكد لنا أن صورة المدير ليست رأيا فرديا، إنما هي مرآة عاكسة للممارسات، وكلما زادت الشفافية، والعدالة، والاحترام في تفاعلاته اليومية، اقتربت صورته من النموذج الذي يلتف الناس حوله لا مضطرين، بل راغبين.


ثالثا: كيف تؤثر صورة المدير على بيئة العمل؟

صورة المدير في أذهان الموظفين ليست مجرد انطباع عابر، بل هي حجر الأساس الذي يبنى عليه كل جانب من جوانب بيئة العمل. المدير ليس فقط مسؤولا عن توزيع المهام أو اتخاذ القرارات، بل هو المؤثر الأكبر في المزاج العام للمؤسسة، وحجم التزام الموظفين، وجودة الإنتاجية، وحتى قدرة المنظمة على الابتكار والتطور.

الأثر الأول: المدير مرآة الشعور بالانتماء والاعتراف

لا يكفي أن يحصل الموظف على راتبه وينفذ مهامه، بل يحتاج إلى أن يجد من يراه، ويقدّر جهده، ويشعر بأنه عنصر جوهري لا يمكن الاستغناء عنه، إن المدير الذي يتعامل مع الموظف كإنسان له طموح وحضور وجهد ملموس، سينجح في بناء رابطة وجدانية بين الفرد والمؤسسة، وتعتبر هذه الرابطة هي نواة الانتماء.

حينما ينصف المدير موظفيه، ويعترف بمجهوداتهم، ويمنحهم فرصة لرؤية تأثيرهم على الأداء الكلي، يتحول العمل من التزام وظيفي إلى مسؤولية ذاتية، فالموظف يشعر أن نجاح المؤسسة هو انعكاس مباشر لنجاحه، وأنه ليس قطعة غيار يمكن استبداله، بل لبنة أساسية في البناء.

تشير دراسة نشرتها مجلة (Harvard Business Review 2020) إلى أن الموظفين الذين يصفون مديريهم بالداعمين لديهم احتمالية أعلى للبقاء في وظائفهم بنسبة تصل إلى (67%)، فهذا الرقم، بعيدا عن كونه مجرد إحصاء، يكشف عن دور المدير في إدارة الموارد البشرية بذكاء وجدانية معا. فالحفاظ على الموظفين الأكفاء لا يتحقق فقط عبر الرواتب والمزايا، بل من خلال شعور داخلي بالأمان والتقدير والانتماء.

وعلى المستوى المؤسسي، فإن تعزيز هذا الشعور يسهم في خلق فرق عمل مستقرة، مترابطة، تتشارك الأهداف وتتكامل في المهام. كما يقلل من آثار الدوران الوظيفي، بما يحمله من تكاليف إعادة تدريب، وانقطاع في الخبرة، وضعف في ديناميكية الفريق. والأهم من ذلك، فإن ثقافة الانتماء ترسّخ الهوية المؤسسية وتجعلها أكثر قدرة على مقاومة الضغوط الخارجية والداخلية، سواء من المنافسة أو من تغيرات السوق.

الأثر الثاني: كيف يبني المدير بيئة عمل منتجة؟

المدير ليس مجرد موزع للمهام أو مراقب للأداء، بل هو المهندس الخفي الذي يصمم المناخ النفسي والتنظيمي الذي يعمل فيه الفريق، وحين يبني هذا المدير علاقة قائمة على الثقة والوضوح والاحترام، فإنه لا يمنح الموظف فقط تعليمات، بل يمنحه طاقة ذهنية ومزاجية تساعده على الإنتاج بأعلى كفاءة.

فالإنتاجية لا تتولد من الضغط بل من التمكين، والموظف الذي يثق في عدالة تقييم مديره، ويفهم توقعاته بوضوح، ويعامل بكرامة، يعمل بتركيز أعلى ويقلل من الهدر المرتبط بسوء الفهم أو التردد. هذا يتسق مع ما أظهرته دراسة صادرة عن مؤسسة (Gallup 2023)، حيث بينت أن فرق العمل التي تعمل ضمن بيئة تشجيعية وداعمة تحقق معدلات إنتاجية أعلى بنسبة تصل إلى (21%) مقارنة بنظرائها في بيئات يغلب عليها الضغط أو التوتر.

من الناحية النفسية، فإن الأمان الذي يوفره المدير الإيجابي يخفض من مستويات التوتر الإدراكي، وهو ما ينعكس مباشرة على زيادة سرعة الإنجاز، وجودة المخرجات، وتقليص الأخطاء. وعلى مستوى التفاعل داخل الفريق، فإن هذا المناخ يقلل من الصراعات الداخلية، ويعزز التعاون، ويشجع على تبادل المعرفة، وهي عناصر حيوية لرفع الكفاءة التنظيمية.

وفي المقابل، فإن المدير الذي يتبنى أسلوب الترهيب، أو يمارس سلطته دون شفافية أو حوار، ينتج بيئة عمل مشحونة بالخوف، حيث يخشى الموظفون التجريب، ويتجنبون النقاش، ويخفون الأخطاء بدلا من معالجتها. ومع مرور الوقت، تتحول هذه البيئة إلى أرض خصبة للانسحاب النفسي، وارتفاع نسب الغياب، وتآكل الروح الجماعية، مما ينعكس سلبا على أداء المؤسسة وقدرتها على التكيف والنمو.

بالتالي، فإن الدور القيادي في خلق بيئة إنتاجية ليس مجرد إجراء وظيفي، بل مسؤولية سلوكية واستراتيجية تمس جودة الأداء المؤسسي في الصميم.

الأثر الثالث: الثقة أساس الابتكار

الابتكار لا يولد في بيئات مشبعة بالخوف، ولا يزدهر في أجواء يهيمن عليها التوجس والتقييم المستمر. بل يبدأ من لحظة يشعر فيها الموظف بالأمان النفسي، ويتيقن أن أفكاره لن تقابل بالسخرية، وأن تجاربه لن تحسب عليه كأخطاء كارثية، بل كمحاولات يشاد بها. المدير الذي ينصت بصدق، ويظهر احتراما لوجهات النظر المختلفة، ويحتفي بالخطأ بوصفه وسيلة للتعلّم، لا لعقاب صاحبه، هو من يضع حجر الأساس لثقافة ابتكارية عضوية وحية.

إن خلق بيئة عمل مبنية على الثقة يمكّن الموظفين من استكشاف الحلول غير التقليدية دون خشية من الإدانة، ويشجع على التفكير خارج حدود الأدوار الوظيفية الضيقة. في هذه الأجواء، تتحول فرق العمل إلى معامل تجريبية مرنة، يتغذى فيها الأداء من التعدد والجرأة والانفتاح. وتشير دراسات (Google’s Project Aristotle) إلى أن “الأمان النفسي” هو العنصر الأهم لفرق العمل ذات الأداء العالي، متقدما على الخبرة والكفاءة والموارد.

بالمقابل، المدير الذي يتعامل مع الخطأ كعارٍ ينبغي تغطيته، أو يتجاهل الآراء الخارجة عن السياق المعتاد، يخلق مناخا نفسيا مضادا للابتكار. الموظفون في هذه الحالة لا يكتفون بالصمت، بل يدخلون في أنماط سلوكية دفاعية: تجنب المشاركة، التردد في اتخاذ القرار، الاكتفاء بما هو مطلوب فقط. وسرعان ما تتحول بيئة العمل إلى مساحة رتيبة، تعيد تدوير الأفكار نفسها، وتفقد بمرور الوقت قدرتها على التجدد أو المنافسة في سوق يزداد فيه الطلب على الحلول الإبداعية.

كما أن غياب الثقة لا يؤثر فقط على جودة الأفكار، بل يخلق أثرا تراكميا يظهر في انخفاض رضا الموظفين، تراجع الروح المعنوية، وتباطؤ الاستجابة للتغيير، مما يحد من مرونة المؤسسة ويقلل من قابليتها للتطور. وعلى المدى الطويل، تدفع المؤسسات التي تفشل في بناء بيئة آمنة ثمنا باهظا يتمثل في مغادرة العقول اللامعة، وفقدان فرص التحول والتميز.

الأثر الرابع: التعاون والعمل الجماعي

التعاون داخل بيئة العمل لا يقوم فقط على النوايا الحسنة، بل على الإشارات السلوكية التي يرسلها المدير يوميا، فالمدير الذي يمارس العدل بوعي، ويشجع على تبادل الآراء دون تحامل، لا يدير الأفراد فحسب، بل ينسج بينهم روابط نفسية تمهّد لعمل جماعي متناغم ومتناسق.

في هذا السياق، تبرز صورة المدير بوصفها العامل الحاسم في تشكيل (ثقافة الفريق) وعندما يرى الموظفون أن الجميع يعامل بإنصاف، وأن آراءهم تحترم مهما كان موقعهم، فإنهم يقبلون طوعا على دعم زملائهم، ومشاركة المعرفة، والمساهمة في حل المشكلات الجماعية دون شعور بالتهديد أو التهميش. وتظهر دراسات من (Center for Creative Leadership 2022) أن القادة الذين يشيدون بيئة قائمة على الثقة المتبادلة والإنصاف يسهمون بنسبة تصل إلى (36%) في رفع مستوى التعاون بين أعضاء الفريق مقارنة بغيرهم.

من جهة أخرى، فإن غياب العدالة أو انعدام الشفافية في أسلوب المدير يفتح الباب لصراعات خفية، حيث يفضل الأفراد حماية مصالحهم على حساب روح الفريق، وتغيب المسؤولية الجماعية لتحل محلها النزعة الفردية أو الاتكالية. في مثل هذه الأجواء، يتراجع تبادل الخبرات، وتضعف فرص التعلم الجماعي، ويصبح الأداء متذبذبا وغير مستدام.

إن جوهر العمل الجماعي الفعّال لا ينشأ من السياسات المكتوبة، بل من الممارسات اليومية للمدير الذي يظهر احترامه للناس، لا للمناصب. فحين يتحول المدير إلى مرجعية أخلاقية ومهنية، فإن الفريق يرى فيه النموذج، لا الرقيب، ويبدأ التعاون من منطلق قناعة داخلية لا التزام وظيفي.

الأثر الخامس: أبعاد أكبر لتأثير صورة المدير

قد لا يعي كثير من المديرين أن حضورهم المهني يتعدى توزيع المهام واتخاذ القرارات، ليبلغ تأثيرا مباشرا على الصحة النفسية لموظفيهم. فالصورة اليومية التي يظهر بها المدير، سواء من حيث أسلوب التواصل أو درجة التفهم أو نمط القيادة، تشكّل عاملا نفسيا محوريا في شعور الموظف بالاستقرار أو التوتر داخل بيئة العمل.

عندما يتفشى التقدير الإنساني، والمرونة في التفاعل، والاحتواء عند الأزمات، ينعكس ذلك على الموظفين بانخفاض مستويات التوتر، وتراجع مظاهر الاحتراق المهني، وارتفاع مؤشرات الرضا العام، وتشير دراسة صادرة عن (American Psychological Association 2023) إلى أن القيادة المتزنة والداعمة تسهم بشكل مباشر في تقليل احتمالية الإصابة بالقلق والاكتئاب بين الموظفين بنسبة تصل إلى (40%).

أما حين تسود العلاقات المتوترة، أو تدار الفرق بأسلوب متسلط أو متقلب، فإن بيئة العمل تتحول إلى مصدر ضغط مزمن، ويتجلى هذا الضغط في ارتفاع معدلات الغياب، انخفاض جودة الإنتاج، تكرار الأخطاء، وزيادة الحوادث المرتبطة بالتشتت الذهني وضعف التركيز.

من هنا، لا يمكن اعتبار صورة المدير أمرا شكليا أو وظيفيا فقط، بل هي عنصر رئيسي في تشكيل جودة الحياة الوظيفية والصحة النفسية العامة للموظفين، وهو ما يجعل من تحسين مهارات القيادة الوجدانية والتواصل الإنساني ضرورة مؤسسية لا ترفا إداريا.


خاتمة – المدير الذي يبقى في ذاكرة موظفيه

وبهذا الشكل، وهذا التأثير الذي تم استعراضه في هذه المقالة، فإن صورة المدير ليست انعكاسا لشخصيته أو سلوكه فحسب، بل هي المحرك الأهم لكثير من نتائج العمل غير المرئية مباشرة، مثل الولاء، الإنتاجية، الإبداع، التعاون، والصحة النفسية، إن بناء صورة إيجابية يتطلب من المدير أن يكون واعيا لدوره القيادي ليس فقط في اتخاذ القرارات، بل في خلق بيئة يشعر فيها الجميع بالأمان، التقدير، والتمكين.

والمدير الحقيقي يصنع أثرا عميقا في الذاكرة بما يتركه من أثر صادق في نفوس من عملوا معه، وهذا الأثر لا يقاس بالألقاب ولا يصنع بالقرارات، بل يتشكل من تفاصيل إنسانية دقيقة: عدلٌ في لحظة حساسة، كلمة احترام في وقت شك، أو موقف نبيل لا ينسى.

إن القادة يعرَفون بما يقولونه على طاولة الاجتماعات، وبما يدوِّنونه في تقارير الأداء، لكن ما يبقى حقا هو ما يقوله عنهم موظفوهم حين غيابهم، كيف يتذكّرهم من عملوا معهم؟ هل تركوا خلفهم أثرا يرافق الذاكرة؟ أم مجرد مهام انقضت بانتهاء وقتها؟

تبقى صورة المدير في ذاكرة موظفيه حين يكون مرآة للعدالة، ومصدرا للأمان، وصوتا للإنصاف، وعندما تطوى الملفات وتغيب العناوين، يستمر أثره فيما قاله الناس عنه، وما بقي في قلوبهم من بعده.

مقارنة الصورة الذهنية عن المدير الجيد وغير الجيد لدى الموظفين

الترتيبالمدير الجيد
(الصورة الذهنية)
المدير غير الجيد
(الصورة الذهنية)
ملاحظة الأهمية/ الخطورة
1قائد ملهممتسلط أو ديكتاتوريتأثير مباشر على الدافعية والالتزام
2عادل ومنصفغير عادل أو متحيزالعدالة أساس الثقة بين الموظفين والإدارة
3متواصل بوضوح وشفافيةغير واضح في التواصلالتواصل الواضح يمنع سوء الفهم ويعزز الفعالية
4مستمع جيدغير مستجيب أو متجاهلالاستماع يعزز الشعور بالتقدير والانتماء
5داعم ومحفزناقد فقط ولا يقدر الجهدالدعم يزيد من الإنتاجية والتحفيز
6يضع أهداف واضحةيضع أهداف غير واقعيةالأهداف الواضحة توجه العمل وتزيد الإنجاز
7يشارك في حل المشكلاتيتجنب المسؤوليةالمشاركة تبني الثقة والمسؤولية المشتركة
8يثمن جهود الفريقيتجاهل التطوير المهني للموظفينالتقدير يحافظ على الرضا الوظيفي والنمو المهني
9يعترف بالأخطاء ويتعلم منهالا يعترف بالأخطاءالاعتراف بالأخطاء يبني بيئة تعلم وتحسين مستمر
10موجه ومرشديقمع المبادرات الجديدةالتوجيه يطور القدرات والابتكار
11يحفز الابتكار والإبداعيفتقد إلى الثقة والاحترامالابتكار يعزز تنافسية المؤسسة
12يبني الثقة والاحتراميتجنب المسؤوليةالثقة عنصر أساسي لاستمرارية العلاقات المهنية

اكتشاف المزيد من خالد الشريعة

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

انشر رأيك أو تعليقك حول هذا الموضوع

ابدأ مدونة على ووردبريس.كوم. قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑