كانت تلك الأيام عادلة على جميع سكان القرية، فهم جميعا يعانون فصل الشتاء سواء بسواء، وجميعهم يعتمدون على الحطب للتدفئة والطهي، أما الإنارة فكانت تعتمد على زيت الزيتون بواسطة (السراج) في مرحلة ما ثم تطورت إلى الكاز واستخدمت البلورة واللوكس..
تعتبر النار منذ اكتشافها رفيقا للإنسان رغم المآسي التي ألحقتها به في العصور المتأخرة.. وكان أهل قرية ارحابا يستخدمون النار بطرق متشابه ولنفس الأغراض ومن نفس المصادر، ترى، كيف كانوا يتعاملون مع النار..
لا يوجد هناك أداة للطهي غير نار الحطب كمصدر للحرارة آنذاك..
كان الفلاحون والفلاحات يجمعون الحطب من شجر البلوط (السنديان) طيلة أيام السنة، وكانت النسوة تقوم بمهمة نقل الحطب على رؤوسهن، ولمسافات تزيد عن الكيلو مترين، قد تزيد أو تنقص وكن يسترحن مرة أو مرتين.. وكان الرجال يقومون بمهمة قطع أجذع بعض الأشجار بواسطة (الطبر أو الفاروعة) وذلك بعناية فائقة لتستمر الشجرة على قيد الحياة، وفي نهاية عملهم يقطعون جذعا كبيرة يقوم بعضهم بجرها كما هي إلى بيوتهم.. متجاهلين تعليمات وزارة الزراعة، ومتحايلين على الطوافين بالابتعاد عن مناطقهم أو بدعوتهم لتناول طعام غداء أو عشاء، إو إهدائهم سخلا أو ديكا أو قطعة نقدية حمراء..
كان الرجال يساهمون في تحضير الحطب، ويقتلعون القرامي (وهي عقب الشجر اليابسة ويستخرجونها من الأرض) وينقلون القطع الكبيرة على البهائم، وهناك يتم تقطيع القطع الكبيرة والقرامي إلى قطع صغير يسهل التعامل معها في الأدوات المتاحة لإشعال النار..
كان الحطب بالنسبة للفلاحين بمثابة النفط اليوم.. وكانوا يصنعون منه الفحم النباتي بطرقهم الخاصة، ويحتفظون به إلى موسم الشتاء والبرد.. وكان الحطب يستخدم للطهو والتدفئة والخبز، ويخزن كما يخزن القمح والشعير والطحين..
فأما الطهو، فكانت نسوة ارحابا يصنعن بجوار بيوتهن موقعا اسمه (الموقدة) وهي بناء صغير مكون من التراب والحجر على شكل حرف (C) وهي بمساحة تقارب (80 × 60) سم من الخارج، ونحو (60 × 40) من الداخل ففي الجزء الأمامي المفتوح يوضع الحطب ويغطى أحيانا بالاسمنت لحفظه، وعلى الأطراف العلوية عدد من القضبان الحديدية لتحمل مواعين الطبخ ويتم إشعال النار من خلال صب قليل من الكاز على الرماد ثم إشعال النار، وهكذا لطهو الطعام، وبعد دخول (بابور الكاز) للخدمة اقتصر عمل الموقدة على المأكولات التي تتطلب وقتا طويلا للنضح، وأحيانا لصناعة معقود التين ومعقود العنب ودبس البندور وقد كانت والدتي أطال الله في عمرها على الخير مبدعة في ذلك..
أما استخدام الحطب للتدفئة، فكان يتم من خلال (صوبة) حطب تكون مستطيلة أو دائرية، ولها فتحتان أو ثلاثة من الأعلى لطهو الطعام أثناء فصل الشتاء وكذلك تسخين المياه، ويكون لهذه المدفأة فتحة أمامية أخرى لإدخال الحطب وإشعاله، وفي معظم الليالي تبقى الجمار في تلك المدفأة تساعد في تلطيف الجو بدلا من قسوة البرد، ويمتد من المدفأة إلى الخارج أنبوب معدني (بوري) لنقل الدخان إلى خارج البيت، فترى الأدخنة متصاعدة من البيوت وكأنها مصانع من أوروبا في القرون الماضية.
صورة صوبة حطب
وإلى جانب الصوبة كان البعض يستعملون (المنقل)، وهو وعاء حديدي مستطيل مغلق من الأسفل والجوانب الأربعة، ومفتوح من الأعلى ذي أرجل أربعة، طول الواحدة نحو (20) سم، وارتفاع الجانب الواحد نحو (10) سم، وكان يوضع الحطب بواسطة (سطل) مفتوح من أعلى وأسفل كي لا يتفرق الحطب خارج المنقل، ويوضع الجميع في المنقل ويتم إشعال النار به، وميزة المنقل أنه سهل التنقل، ويمكن إبعاده إلى خارج المنزل بعد نفاذ الحطب..
ولاستخدام الموقدة والصوبة والمنقل لا بد من وجود أداة حديدية لالتقاط الجمر وإدخال الحطب إلى الداخل وتسمى ملقط، وهي تستخدم حتى الآن في مثل هذه الأغراض.
أما الاستخدام الثالث للحطب فكان لصناعة الخبر البيتي، ويسمى بخبر (الطابون)، لقد كان لدينا فرن طابون، تأتي العديد من نسوة الحارة لصناعة الخبز لدينا، أمثال أم علي وأم محمد العبد الرحمن والحاجة فاطمة وأم قضاب أطال الله في عمر من هن على قيد الحياة، ونسأل الله الرحمة لمن توفاهن..
وعندما كان ينقص الخبز لدى عائلة، كانت تبادر للاقتراض من الجيران رغيفا أو رغيفين، ويتم السداد في اليوم التالي ولم يكن الجيران يترددون في إقراضهم الخبز وما شاءوا من احتياجات..
لم يكن مألوفا تقاضي الأجر مقابل صناعة الخبز في الفرن، لكن النسوة كن يتفق على الذهاب إلى الأحراش لجلب أوراق الشجر المتساقطة ووضعها كغطاء للفرن كي يحتفظ بحرارته، كانت النسوة لا يتراخين عن القيام بهذا الدور، وكان كل واحدة تأخذ كيسا من أكياس الطحين أو غيره ويذهبن جميعا إلى الأحراش ويملأن أكياسهن بورق الشجر ومن ثم جلبه إلى مكان قريب من الفرن حملا على رؤوسهن الشريفة.
وإضافة إلى ورق الشجر كانت النسوة تستخدم فضلات الأبقار والأغنام لنفس الغاية، فهي تعتبر جيدة لذلك، وكان هناك أداة خشبية تستخدم لفرد هذه المواد على الفرن وتسمى (المقحار).. ويطمر الفرن من غروب الشمس إلى صباح اليوم التالي حيث تبدأ النسوة بالتوافد للخبيز وتتفنن كل واحدة منهن في فرد العجينة قبل وضعها في الفرن..
كان فرن الطابون ذا شكل دائري، يشبه نصف التفاحة المفرغة، وله فتحتان، الفتحة الجانبية الأمامية لوضع الحطب وإشعاله ودخول الهواء اللازم للنار، وأما الفتحة العلوية وهي أكثر اتساعا فكانت لإدخال العجين المفرود وإخراج الخبز، وكان لكلا الفتحتين غطاء خاص، وكانت النسوة تستعمل أداة معدنية هي قضيب حديدي معقوف من المقدمة وله رأس مدبب، وله مقبض مغطى بالقماش لتسهيل استعماله والتغلب على سخونته بسبب النار..
وتضع النسوة العجين المفرود في قعر الطابون إلى أن ينضج ويصبح خبزا.. وكان الطابون يتسع لنحو ثلاثة أرغفة خبز بالحجم المألوف آنذاك.. وكانت رائحة الخبز تشم على بعد مسافة بحيث تجلب أحيانا أصدقاء الأسرة لتناول رغيف خبز ساخن مع قليل من اللبن والبص أو ما تيسر من زيت وزعتر وزيتون وغيره.. ناهيك عن جمال المرأة عندما تحمل (منسفة) مملوءة بالخبز وهي خارجة من موقع الفرن متجهة إلى بيتها، وكانت حمرة الخبز تمنحه جمالا إضافيا على طعمه الذي يجعل اللعاب منهمرا..
هكذا كانت أمهاتنا (نسوة ارحابا) تستخدم الحطب، وكن أكثر معرفة في هذا المجال من الرجال، فالرجال لهم مهامهم الأخرى إلى أن يجمعهم أخيرا بأسرهم رغيف خبز طابون ساخن..
للإطلاع على التعليقات المنشورة على فيسبوك يرجى النقر على: