كان سكان بلدة ارحابا يولون تأمين مياه الشرب أولوية كبيرة، ولا يقتصر على شرب الآدميين فحسب، بل يمتد إلى تأمين مياه الشرب أيضا لماشيتهم من أبقار وخراف وأغنام وخيول وغيرها..
كانت النسوة أو الريفيات يذهبن إلى عين زوبيا وهي بئر ماء كبيرة، ويشاع أنها نافذة على نهر يجري تحت الأرض، ونسوة أخرى يذهبن إلى عيون ماء أخرى القريب منها يبعد آلاف الأمتار، ولم يكن في البلدة سوى عين ماء و احدة جفت منذ وقت طويل.. فكانت كل امرأة منهن تحمل على رأسها جرة ماء تتسع لنحو (20) لتر ماءٍ تقريباً، وتحملها من عين أو بئر الماء إلى بيتها، وكنّ يتباهين أن كلا منهن تحمل على رأسها جرة دون أن تمسكها بيدها ولا تخشى عليها من السقوط، لقد كن يتحكمن بحركة رؤوسهن بحركات ثابتة، بينما كانت منطقة الورك أو الخصر هي التي تتحرك، ويقال أن هذه الطريقة في حمل الماء على الرؤوس كانت سببا للرقص الشرقي الذي يعتمد على حركة الوسط مع ثبات الرأس على عكس الرقص الغربي الذي يعتمد على حركة الرأس والمنطقة العلوية من الجسد..
صورة تعبيرية عن طريقة حمل النسوة لجرار الماء على رؤوسهن
رسمة تعبيرية أثناء شرب الحيوانات في الماضي
ولكي ترتكز الجرة بثبات على رأس المرأة كانت المرأة تعمد على لف قطعة قماش بشكل دائري وتضعها على رأسها ثم تقوم بمفدرها أو بمساعدة غيرها بوضع الجرة على رأسها، وتسير النسوة وكأنهن في موكب حتى تصل كل منهن إلى بيتها.
أما الطريقة الثانية لتأمين المياه فقد كانت من خلال حفر بئر قريب من المساكن يتم فيه تجميع مياه الأمطار في فصل الشتاء، وهي طريقة قديمة قدم التاريخ، رغم أن هناك آبار ماء من الحضارات القديمة من رومانية وغيرها حتى الآن وهي أكثر استاعا مما كان يحفرها الأهالي، وكان هناك أيضا ما يطلق عليها اسم الجيعة وهي بئر لها مواصفات أخرى تختلف عن ماصفات البئر العادية، وهي خزان كبير للماء، لكن هذه الآبار قد لا تكفي طيلة أيام السنة، خاصة وأن البئر الواحدة تشترك فيها عدة أسرة، إضافة إلى أنها مصدرا ترد عليها الماشية للارتواء، فهي مخصصة للشرب الآدمي والحيواني إضافة إلى الاستخدامات المألوفة الأخرى كالنظافة بأشكالها المختلفة، مما يضطر النسوة إلى الذهاب بعيدا للبحث عن الماء من مصادر أخرى.
في أوقات متأخرة وفي حوالي منتصف القرن العشرين وقبله بقليل توسع أهالي بلدة ارحابا في حفر الآبار بفضل دخول مادة الإسمنت وتسهيل عملية التشييد بعد الحفر، وزاد ذلك في أيامنا هذه بفضل آلات الحفر المختلفة، وكان (الدلو) هو الأداة التي يتم بها رفع الماء من البئر لتعبئة الأوعية المتوفرة، ويكون مربوطا بحبل مصنوع من شغر الأغنانم في أغلب الأحيان، وكان يتميز بالخشونة والمتانة، إلا أنه يتآكل بين الحين والآخر حتى يتلف.. وأما الدلو نفسه، فكان مصنوعا من مدة (كاوشوك) التي تشبه المادة التي تصنع منها عجلات السيارات، وهو قطعة مستطيلة تطوى على شكل دائرة ويثبت طرفاها معا بالمسامير المعدنية، ثم يثبت في أحد طرفيها قطعا دائرية لإغلاقها، وكان تثبت بالمسامير المعدنية ذات الحجم المناسب، وفي الطرف الآخر توضع قطعة من نفس المادة لتكون مقبضا للدلو حيث يربط به الحبل، وكان يزن الدلو كثر من كيلو غرام واحد..
صورة للدلو الذي ترفع به الماء
وإلى جانب الدلو كأداة لرفع الماء، كان لدى إحدى العائلات المجاورة (أبو قضاب) بئر عميقة مغلقة، وكان عليها مضخة معدنية، ذات ذراع معدني وينزل منها أنبوب حتى قعر البئر، يقوم الشخص الذي يريد تعبئة الماء بتحريك ذراع المضخة للأعلى والأسف ومن ثم يبدأ الماء بالتدفق.
ولكي تتمكن الحيوانات من الشرب، كان الأهالي بعمدون إلى صنع حوض حجري أو معدني أو خشبي بطول يزيد عن المتر وربع المتر وبعرض يقارب نصف المتر، توضع فيه المياه، وتبدأ الماشية بالشرب منه، وقد يكون هناك عدة أحواض لمنع تزاحم الماشية على الشرب.
حوض حجري يملأ بالماء لشرب الحيوانات
حوض معدني لشرب الحيوانات
في منتصف القرن العشرين قامت أسرتنا المكونة من والدي ووالدتي وبعض الأعوان بحفر بئر بجانب بيتنا القديم، لقد كان الحظ إلى جانب أسرتنا، حيث وجدت كتل صخرية متجاورة يفصلها بمسافة أربعة أمتار تقريبا (سلع) وهو تراب خالص، حيث قاموا بنضح الأتربة الموجود إلى عمق يزيد عن خمسة أمتار، ثم تم تشييد الجدران الصخرية وسد الثغرات بالاستمنت وعمل القصارة اللازمة بعد ذلك، وما زال البئر صالحا حتى الآن، وهو يتسع لنحو (80) متر مكعب من الماء.. وكانت مياه البئر دافئة شتاء، وباردة صيفا، لدرجة أنك إذا ملأت كوبا زجاجيا بالماء فور خروجه من البئر فإن الكوب يتعرق من الخارج وكأنه خارج من الثلاجة للتو..
وبعد أن وصلت شبكة المياه الحكومية إلى القرية، لم يكن كثير من الناس يستسيغون طعم الماء القادم بالأنابيب، لقد كانت العديد من الأسر تأتي إلى بئرنا لتعبئة قوارير ماء للشرب وإعداد الشاي، لقد كانت مياه البئر خالصة من المطر فقط، وكانت تبدو خفيفة ذات مذاق رائع، يشعر الشارب بأن ثمة صداقة بينه وبين هذه الرشفة من الماء أو كأن لها ذكريات جميلة معه من ذي قبل..
وكانت هناك طريقة أخرى لتزويد القرية بالماء، وهي البرك، فقد كانت تحيط بالبلدة العديد من برك الماء المحفورة منذ القدم بالصخر والتي تعود في معظمها إلى التاريخ الروماني وما قبله وما بعده، لكن يطلق عليها برك رومانية، وكانت مياه الأمطار تتجمع فيها سواء بحفر الأقنية أو بطبيعة البرك المنخفضة، وكان لكل بركة عدة درجات محفورة بالصخر أيضا تصل من أعلاها إلى القعر ليتمكن الناس من النزول إليها والصعود منها لتعبئة المياه وكذلك تنظيفها قبل موسم الأمطار جراء الأتربة التي تترسب فيها.. وتوجد إحدى هذه البرك على الطريق التي تؤدي إلى منطقة حيون، وأخرى جنوب القرية.. وكان يعتمد على البرك بالدرجة الأولى لسقاية الأغنام والأنعام الأخرى من أبقار وخيل وحمير..
أما الرجال الذين يخرجون إلى الرعي أو الفلاحة بالأرض فكانوا يأخذون معهم قوارير خاصة لهم، وفي بعض الأحيان يلجأون إلى أماكن تتجمع فيها لمياه مثل (الجرن أو الدن) وهو حفرة صغيرة في الصخر، تتجمع فيها مياه الأمطار وتنتشر في كل الجهات، وتتسع لنحو (30 – 50) لتر، لقد كان الدن مصدرا للشرب لبعض الرجال المنتشرين، وكان مياه الدن رغم الخضرة في قعره، إلا أنها صافية وهادئة وباردة، يغترف الشخص منها بيده ليشرب دون أن يحرك الماء حتى لا يتعكر..
أدوات حفظ الماء في المنازل:
كانت المرأة في بلدة ارحابا قديما تتولى جلب وحفظ الماء في المنزل، حيث يجمع الماء في جرة فخارية يطلق عليها اسم (الخابية) وكانت ذات شكل كروي، لها أذنان مثبتتان على الجانبين بهدف الحمل عندما تكون فارغة، ولها فوهة من الأعلى، وتغطى عادة بطبق خشبي ويوضع فوقه الكوب للشرب.. وكان البعض يضع حول قاعدة الخابية قطعة قماشية لتمتص الماء الذي يتشرح منها وآخرون يرفعونها على أداة لكي لا تكون على مستوى الأرض حماية لها من الكسر..
الخابية (جرة فخارية كروية لحفظ الماء)
لم تعد الخابية تصنع منذ سبعينيات القرن العشرين تقريبا، وحل محلها جرة بيضاوية طولية خفيفة الوزن، تكون ضيقة من الأسفل، ثم تأخذ بالاتساع شيئا فشيئا إلى الأعلى ثم تعاون الضيق قليلا لتشكيل ما يشبه العنق ويرتفع عنق الجرة قليلا لنحو (40) سنتمتر حيث ينتهي بفوهة الجرة، وكانت الجرة تنصب على منصب حديدي ثلاثي الأرجل له دائرة من الأعلى تسقط بها الجرة وتعلق به عند الثلث الأسفل منها، وكان يوضع تحتها وعاء يتجمع فيه رشح الجرة من قطرات الماء.. وكان البعض يقوم بدفن الجرة بالتراب خاصة ممن يذهبون (للعزب) خارج البيوت في فصل الصيف وفي مواسم القطاف والحصيدة، وذلك كي لا تتعرض للكسر وتحافظ على درجة برودة أكثر للماء.
جرة ماء فخارية
ورافق هذه الفترة أيضا صناعة أباريق فخارية، توضع بها المياه، وتستخدم للشرب مباشرة بواسطة كوب، وكان كثير من الرجال يلتقط هذه الأباريق الفخارية ويرفعونها للأعلى ويصبون الماء في أفواههم حتى الاارتواء دون أن يلمس (زمبعة) الإبريق أفواهمم، (والزمبعة أو الزنبعة) هي طرف أو مخرج للماء من فتحة بحجم اصبع اليد كي لا يتدفق الماء من فوهة الإبريق الفخاري.. وكانت هذه الأباريق تأخذ أشكالاً وأحجاماً مختلفة حسب ذوق ومهارة صانعيها وكان بالعادة لها أذن واحدة مقابلة للزمبعة من الجهة الأخرى، وكان هناك سوق لبيع جرار وأباريق الماء الفخارية في مدينة إربد شرق مبنى البلدية الحالي، وكان يعرض فيه إضافة إلى الجرار والأباريق (الطبلات الفخارية) التي تستخدم في الأعراس والتي استعيض عنها بطبلات من الألمنيوم، واستبدل الجلد بالبلاستيك.
يصب الماء من الدورق في كوب فخاري
دورق ماء (إبريق ماء فخاري)
أما أكواب شرب الماء فقد كانت متنوعة، وكان سيدها الألمنيوم، ذلك الكوب المسكوب المخروطي المسكوب الذي تتساوى فتحته مع قاعدته أو قعره، وله يد حديدة جانبية مثبتة بتبشيمة من أعلى وأخرى من أسفل.. وهناك من كان يستخدم أكوابا فخارية ذات سمك أقل بقليل من سنتمتر واحد..
أكواب ماء فخاري
أما المدارس، فلم تكن فيها مياه شرب قطعيا، وكانت المياه المتوفرة فيها مخصصة لدورات المياه والتنظيف، إلا أن الصيف كان يتطلب من الأطفال والطلبة عموما أن يتزودوا بالماء، فقد كان معظمهم يحضر معه ما يسمى بالمطرة (أو الزمزمية) وهي قارورة صغيرة للماء تتسع لنحو نصف لتر ماء، قد يزيد وقد ينقص قليلا، وكانت تأخذ أشكالا متعددة، وألوان متنوعة، وكانت المطرة العسكرية التي يحصل عليها الطلبة من ذويهم ممن يخدمون في القوات المسلحة هي الأجود، فهي سميكة تتحمل الضربات والسقوط، كما أن غطاءها موصول بهيكل المطرة نفسها بحيث أنه لا يسقط ولا يضيع..
مطرة عسكرية
مطرة عسكرية داخل حافظة ضد الحرارة وواقية من الصدمات
كانت الأمهات حريصات على أن يعطين أولادهن وبناتهن المطرة صباحا، وقد كان البعض منهن وخاصة بعد عام (1978 وصول الكهرباء للبلدة) كن يضعن لهم الماء البارد من الثلاجة والبعض يجعله يصل إلى درجة الانجماد لكي تدوم البرودة لأطول فترة ممكنة وقد تصل إلى فترة الظهيرة وهو وقت الخروج (الحلة) من المدرسة..
وهكذا كان يفعل الكثيرون من غير الطلبة خاصة ممن يذهبون إلى الحقول، حيث كانوا يأخذون معهم المطرة أو أية قارورة أكبر للتزود بالماء والشرب، خاصة في المواسم التي يتبخر فيها الماء من الأحواض والبرك والصغيرة والجرون (جمع جرن وهو الدن)
ونظرا لندرة الماء آنذاك، لم يكن هناك هدر في الاستخدام، فعند الحاجة إلى الغسيل أو جلي الصحون أو الطناج، فقد كانت النسوة تستخدم كميات قليلة من الماء، ويصاحب ذلك تكرار الاستخدام في كل مرة، أي لا يتم تغيير الماء بتغيير الأدوات المراد تنظيفها إلا عند الحاجة لذلك، وكان هناك ترشيد أيضا في استخدام الماء عند ري بعض النباتات والأشجار وغيرها، وكان ذلك يقتصر على الأشجار حديثة الغرس، والنبات التي تحتاج إلى ذلك كالنعناع والميرمية والزعتر والتي كانت تزرع في الأحواض..
خالد الشريعة
20/ 1/ 2013