المنسيون في زحام الحياة.. عندما يكون الحب أكبر من الذكرى
في كل مناسبة تمر بنا، نقف بين أسماء نريد أن نوجه إليها الشكر، وبين وجوه نرى في تكريمها واجبا، وبين قلوب نخشى أن نخذلها لو لم نلتفت إليها، نوزع الامتنان ونمنح الهدايا، نرفع الدعوات، ونحرص على تذكر أولئك الذين تربطنا بهم علاقات ظاهرية أو التزامات اجتماعية، سواء كانوا زملاء في العمل، شركاء في مشروع، معارف جمعتنا بهم الظروف، أو حتى شخصيات نرى في تقديرها نوعا من العرفان أو إيفاء الدَّين، لكن وسط كل هذا الحرص والتفكير، قد ننسى، دون أن نشعر، من هم أقرب إلينا، أولئك الذين لا يحتاجون إلى رسميات، الذين لا ينتظرون منّا كلمة شكر بقدر ما ينتظرون لحظة تواصل صادقة، أولئك الذين لم تفرضهم علينا المصالح أو المجاملات، بل كانوا جزءا من أرواحنا قبل أن يكونوا جزءا من حياتنا.
هذه الغفلة قد تجرحهم، وقد تجعلهم يقفون حائرين أمام أنفسهم: لماذا لم أكن على قائمة التقدير؟ هل تغيرت مكانتي في قلب من أحب؟ أم أن الأيام أخذتني إلى الظل؟ أهو انشغال عابر أم نسيان متعمد؟ أهو فتور في العلاقة أم مجرد غياب مؤقت عن الذاكرة؟ ورغم كل هذه التساؤلات، يبقى الألم الحقيقي ليس في النسيان ذاته، بل في أن يكون الإنسان قد أعطى بصدق، ثم لم يجد حتى أبسط الإشارة على أنه ما زال حاضرا في الوجدان.
لكن الحقيقة، التي قد تغيب عن الكثيرين، أن الحب الحقيقي ليس قائمة يدقق في أسمائها، ولا بطاقة ترسل في كل عيد، ولا اتصالا يجرى فقط في المناسبات، الحب الصادق يشبه النهر، قد يتباطأ جريانه بفعل المواسم، لكنه لا يجف أبدا، وقد تتفرع مجاريه في اتجاهات متعددة، لكنه يظل يصب في قلب واحد، ليس بالضرورة أن يترجم الحب إلى أفعال مرئية دائما، وليس كل غياب يعني غياب العاطفة، فالقلوب الصادقة تظل مفعمة بالمحبة حتى في صمتها، ولا يحتاج المحب لمن يحب إلى التذكير المستمر بمكانته، لأن ما زرعته الأيام أعمق من أن يزول بلحظة تجاهل عابرة.
إن النسيان في حد ذاته ليس دليلا على فتور المشاعر، فقد يكون الشخص منشغلا بإطفاء حرائق يومه، أو مضطرا للالتفات إلى علاقات لم تكن متينة بما يكفي لتحمله على التأجيل، أو ربما هو فقط تائه في زحام المسؤوليات، يركض خلف الأيام التي لا تنتظره، كم من محب قد غمره العمل فغابت عنه بعض التفاصيل؟ وكم من صديق كان يحتاج إلى من يذكره، لا من يلومه؟ لهذا، ليس من العدل أن نقيس مكانتنا عند الآخرين بمدى تذكرهم لنا، فالأرواح التي تتلاقى بصدق، لا تحتاج إلى توثيق يومي لتظل نابضة بالقرب والود.
المحبة الحقيقية لا تتآكل بالنسيان، بل تزدهر بالتفهم، وتترسخ بالعطاء دون انتظار مقابل، فإن كنت ممن نسيهم أحد أحبته، فابحث في داخله عن العذر، لا عن الذنب، وكن أنت من يبادر، لا من يعاتب، لأن أقوى العلاقات هي تلك التي لا تهتز بزلات الذاكرة، بل تبقى راسخة في أعماق القلب، عصية على النسيان الحقيقي..
حينما ينساك.، لا تكن أنت الناسي
حين يتجاهلك صديق قديم في تكريم، أو لا تصل إليك دعوة لحفلٍ أقامه من تحب، أو يمر عيد ميلادك دون تهنئة من أقرب الناس إليك، لا تتعجل الغضب، ولا تبادر إلى الجفاء، ليس كل غياب عنك نسيانا، وليس كل نسيان تقصيرا، فقد يكون مجرد انشغال أو ضياع في زحام الحياة، فالحياة تمضي مسرعة، تأخذنا في دواماتها، وتضع على أكتافنا أحمالا لم نخترها، فكم من قلب مفعم بالمحبة شغله همٌّ طارئ، وكم من صديق وفيّ ابتلعته مشاغل الأيام فغاب صوته، لكن روحه لم تغب.
تذكر أن من يحبك بصدق قد ينسى ذكرى، لكنه لن ينساك في قلبه، فالمودة الحقيقية لا تقاس بعدد الرسائل المتبادلة، ولا بعدد التهاني في المناسبات، بل بمساحة الحب والاحتواء التي لا تهتز بتغير الأحوال، بدلا من أن تعتب، كن أنت من يبادر، كن أنت من يتصل ويذكر ويبتسم، لا تجعل من انتظار الاعتراف والتقدير حاجزا بينك وبين من تحب، بل كن أنت الجسر، كن أنت من يضيء الطريق ولو انطفأت أنوار الآخرين لحظة.
قيل إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: «لا يكون الصديق صديقا حتى يحفظ أخاه في ثلاث: في نكبته، وغيبته، ووفاته»، وهذه هي الصداقة الحقيقية، التي لا تلتفت لصغائر التفاصيل، ولا تجعل من النسيان حاجزا بين القلوب، فالمحبة لا تختبر في كثرة التواجد، بل في عمق الشعور، وفي القدرة على تجاوز الزلات والهفوات، والإيمان بأن القلوب الصادقة تظل قريبة، حتى وإن أخذتها الحياة إلى طرق متفرقة..
العظماء أيضا.، كانوا في عداد المنسيين!
في التاريخ، نجد شخصيات لم تكن في مقدمة المشهد رغم أنهم كانوا الأعمدة التي وقفت عليها الحضارات، نيكولا تسلا، الذي أسس كثيرا من مبادئ الكهرباء الحديثة، مات وحيدا ومنسيا، رغم أن العالم اليوم قائم على اختراعاته التي غيّرت وجه البشرية، إيميلي ديكنسون، التي تعد من أعظم شعراء أمريكا، لم تلقَ تكريما في حياتها، بل رفضت أعمالها مرارا ولم يعترف بموهبتها إلا بعد وفاتها، فكم من عالم، ومخترع، وفنان رحل دون أن يسمع تصفيق العالم، لكنه ترك أثرا لا تمحوه السنون.
لكن هل قلّ أثرهم؟ هل محاهم النسيان من صفحات التاريخ؟ بالطبع لا، لأن العطاء لا يقاس بالتقدير الفوري، بل بالبصمة التي تبقى، وما كان لله وللإنسانية لا ينسى، حتى إن تأخرت الأضواء في ملاحقته، فالعظماء لا يسعون وراء الاعتراف، بل وراء الحقيقة والإبداع، ولا يلتفتون لمن نسيهم، لأنهم مشغولون بترك أثر لا يزول.
إن كنت ممن يشعرون بأنهم طواهم النسيان، فتذكر أن قيمتك ليست في عدد من يذكرك، بل في حجم الأثر الذي تتركه، والقلوب التي تضيئها، ولو بعد حين..
المحبة أكبر من الذكرى
قد يكون النسيان، أحيانا، نتيجة حرص الشخص على أداء واجباته تجاه الآخرين، أولئك الذين قد لا يملكون ما نملك من قرب، لكنه لا يعني تراجع مكانتنا لديه، فالحياة تلقي على كل فرد مسؤوليات تثقله، وتشغله عن بعض التفاصيل التي لا تقل أهمية عن واجباته، لكنها تتوارى خلف إيقاع الحياة المتسارع، لذا، بدلا من أن نشعل نار العتب، لنكن شموعا تضيء بالمحبة، ولنكن نحن من يبادر بالتذكير بدفء العلاقة، لا بالتقريع على النسيان.
يروى أن الإمام الشافعي كتب إلى صديقه الذي ظن أنه أهمله:
“إذا المرء لم يرعَاك إلا تكلفا ** فدعه ولا تكثر عليه التأسفا”
لكن لا ينبغي أن يفهم هذا البيت على أنه دعوة للقطيعة، بل هو دعوة لفهم أن العلاقات الحقيقية لا تبنى على الحسابات الضيقة، ولا تحتاج إلى مراقبة مستمرة لتبادل الود، المحبة الصادقة تتجاوز اللحظات الفاترة، وتدرك أن الغياب لا يعني انتهاء المشاعر، بل ربما يكون مجرد استراحة في دروب الحياة الطويلة.
وهنا يكمن الدرس: لا تجعل العتاب يثقِل المحبة، ولا تحول القرب إلى معادلة حسابية توزن فيها كل كلمة وكل التفاتة، فالصداقة الحقيقية لا تحتاج إلى ميزان دقيق للحظات التقدير، بل إلى قلب يحتضن الآخر دون شروط، ويد تمتد لتصافح، حتى عندما يتأخر اللقاء..
لمن ظن أنه منسي: كن النور لا العتمة
إذا كنت ممن غاب اسمه عن قائمة الشكر، أو لم تصلك دعوة كان يفترض أن تصلك، فابتسم، وكن أنت من يتصل، من يبادر، من يحتضن العلاقة بدفئها الأول، لا تجعل لحظة نسيان عابرة تهدم جسورا بنيت على مدى سنوات، ولا تضع في قلبك ظن السوء حيث يمكن للتماس العذر أن يضيء المشهد، فالحب لا يقاس بعدد مرات الذكرى، بل بمقدار ما يبقى في القلب حين تخفت الأضواء، وحين تختبر الأيام صدق المشاعر بعيدا عن المجاملات العابرة.
ولعل أجمل ما يقال في هذا المقام ما ورد عن نبينا الكريم محمد ﷺ:
“أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس”
فاجعل نفعك لمن تحب أكبر من عتابك، وليكن قلبك واسعا يتجاوز اللحظات العابرة من النسيان إلى الآفاق الرحبة من المودة الدائمة، لا تنتظر أن تكون حاضرا في ذاكرة الآخرين، بل كن حاضرا في حياتهم بالفعل، بالكلمة الطيبة، بالمبادرة، بالاحتواء، فالنور لا ينتظر من يراه، بل يضيء الطريق لمن حوله، وهكذا كن أنت.
اكتشاف المزيد من خالد الشريعة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
انشر رأيك أو تعليقك حول هذا الموضوع