أولا – مشاهير قالوا عن أنفسهم
سقراط: (اعرف نفسك)
يقول الفيلسوف اليوناني الشهير سقراط: “لقد أوتيت امرأة عنيفة جامحة، فإذا صبرت عليها واحتملت أذاها هان علي ما قد ألقى من الناس جميعا”، وقد دعا سقراط طوال حياته الإنسان إلى معرفة نفسه بعمق وفهم كمرحلة أولى لمعرفة الآخرين، فقال: “اعرف نفسك”، ولكن هل استطاع صاحب هذه الدعوة أن يتوصل إلى معرفة نفسه كما يجب؟ ويجيب سقراط على ذلك قائلا: “أنا أعرف عن نفسي إنني لا أعرف شيئا!
عباس محمود العقاد: (الطمع في إنصاف الناس هو الكثير الذي ما بعده كثير)
يتحدث العقاد عن بعض جوانب شخصيته فيقول: “وأعجب ما عرفته من أمر نفسي أنني أسيء الظن بالناس، لأنني أحسن الظن بهم”، فأول ما يخطر لي على بال أن أتهم من يقترف عملا من الأعمال المنكرة بسوء النية وتعمد الإساءة؛ لأنني لا أحسب أن إنسانا عاقلا يقع في خطأ جسيم عفوا أو جهلا بالفرق بين الحسن والقبيح، فإذا ظلمته فقد يشفع لي أنني أظلمه في سبيل الإنصاف.
أما فلسفته في الحياة مع الناس، فأثر التجربة والدرس فيها أغلب من أثر الطبيعة الموروثة:
كنت أتعب في معاملتهم، ثم عرفت ما أنتظره منهم، فأرحت نفسي من التعب، واتخذت لنفسي شعارا معهم “ألا تنتظر منهم كثيرا، ولا تطمع منهم في كثير”، وهذه الفلسفة تتلخص في سطور، “غناك في نفسك، وقيمتك في عملك، وبواعثك أحرى بالعناية من غاياتك، ولا تنتظر من الناس كثيرا، تحمد عاقبته بعد كل انتظار” وبعد كل هذه التجارب الثرية، هل استطاع العقاد أن يعرف نفسه جيدا؟ يجيب على ذلك قائلا: وهل يعرف الإنسان نفسه؟.. كلا بغير تردد، فلو أنه عرف نفسه لعرف كل شيء في الأرض والسماء، وفي الجهر وفي الخفاء، ولم يكتب ذلك لأحد من أبناء الفناء، إنما يعرف الإنسان نفسه بمعنى واحد وهو أن يعرف حدود نفسه حيث تلتقي بما حولها من الأحياء، أو من الأشياء، والفرق عظيم بين معرفة النفس ومعرفة حدودها، لأننا نستطيع أن نعرف حدود كل مكان، ولكن لا يلزم من ذلك أن نعرف خباياه وخصائص أرضه وهوائه وتاريخ ماضيه ولو قسنا كل شبر في حدوده، والأحرى أن يقال أن الإنسان يعرف الفواصل بينه وبين غيره، فيعرف مداها ولا يتعداه.
أنيس منصور: (لا أقترب كثيرا من الناس خوفا من أشواكهم)
يفسر الأديب أنيس منصور هذه المقولة عن نفسه بأنه لم تكن للعلاقات الإنسانية معنى عنده، من هو الصديق؟ لا أعرف، من هو العدو؟ لا أعرف، ما معنى الزمالة؟ ما معنى العشرة؟ ما معنى الأخوة؟ ما معنى الجيران؟ كل هذه الكلمات لم أجدها في قاموسي، فكل هذه العلاقات تحتاج إلى وقت كي تنمو كما ينمو العشب فوق الحجر الساكن، بل إن هذه العواطف قد أخافتني، فأنا خائف أن يكون لي صديق ثم أتركه، وخائف أن أشعر بالمودة وأن أستريح إلى أحد ثم لا أجده بعد ذلك، فالانتقال من مكان إلى مكان جعلني كما يقول المثل اليوناني القديم: كالحجر المتحرك، لا ينبت عليه العشب، ولم ينبت عشب الصداقة والمودة والألفة والقرب والقربى، فكنت أرى من بعيد وأصادق من بعيد، وعرفت في ما بعد أن كل الناس أمام كل الناس ممثلون يكذبون ويبالغون ويقلبون الحقائق.. حتى لم يعد لمثل هذا التمثيل معنى، فأنت لا تمثل أمام متفرج، ولكن تمثل أمام ممثل آخر: لا متعة ولا لذة ولا معنى.. فلا أحد يصدق أحد.
أما فلسفته “لا أعرف خلاصة لتجربتي في الحياة، ففي كل مرحلة من مراحل الحياة كانت عندي حكمة، وتجاوزتها سنوات، ثم اكتشف معنى جديدا” وخلاصة هذه التجربة إذا كان ولا بد من خلاصة فهي أنك لست مهما جدا كما تتصور، وبدونك سوف تستمر الحياة، ولكننا نحن الذين نجعل لحياتنا أهمية، ومن غير هذا الشعور فلن يكون لحياتنا معنى، ولكن يجب ألا تسرف في إظهار أهميتك وضرورتك، وفي أن الكون يعتمد على وجودك، فأقرب الناس إليك سوف يعيش من غيرك، وربما أفضل، وسوف ينسى دورك في حياته، فأنت مهم جدا عند نفسك، وعندما من يحتاج إليك. المطلوب أن تتواضع كثيرا.
وفي مقولة لأنيس منصور: “كلما عرفنا الإنسان ازددنا حبا للكلاب، ففي القرن العشرين قتل الإنسان 175 مليون نسمة في ثلاثين حربا، تكلفت ملايين الملايين من الدولارات، والحيوانات تقاتل إذا جاعت، وتقاتل إذا اعتدى حيوان آخر على أرضها وصغارها، أما الإنسان.. فكل حروبه (يسميها مقدسة) وليس الدافع لها هو الجوع أو صد العدوان على أرضه وصغاره وأخلاقياته ودينه”.
تولستوي: (كتب كل ممتلكاته للناس على حساب عائلته)
يصف تولستوي زوجته بعد حدوث مشاكل كثيرة بينهما بالتفاهة، وأنها تجاوزت حدودها في ما تقوله، وهو ما دفع الزوجة المحبة إلى كتابة رسالة لهذا الزوج قالت فيها:
“…لماذا تذكر اسمي مقترنا بكل هذا الشر في مذكراتك؟ لماذا تريد أن تدينني الأجيال المقبلة، فتصفني بالزوجة الطائشة.. السيئة.. والتي تتعس زوجها؟ كان من الأفضل أن تسبني أو تضربني لما قد تراه عيبا فيَّ بدلا مما تفعله.. هل تخاف أن يصبح مجدك بعد وفاتك أقل حجما إن لم تظهرني في صورة المستبدة وأنت الشهيد؟”
جورج برنارد شو: (الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يثير فيَّ إحساسا جبانا بالخوف الكامل)
يقول برنارد شو: إنني لا أفكر كثيرا في مقدار الشجاعة التي يتمتع بها مروض الأسود، إنه في داخل قفص الأسد يكون على الأقل في مأمن من شرور الآخرين، وليس هناك ما يخيف من أسد يجد ما يكفيه من طعام، ذلك لأنه لا يعتنق مبادئ ولا ينتمي إلى جماعات أو أحزاب، أو إلى دولة أو طبقة، باختصار، ليس هناك ما يدفعه للقضاء على شيء لا يريد أن يأكله، لقد أحرق الأمريكيون الأسطول الإسباني في الحرب المكسيكية، ولجئوا أخيرا إلى جر الجرحى من هياكل المراكب التي غدت كالجحيم، ذلك ما لا يقدر على فعله الأسد.
أما فلسفته: كن أفاقا، أو كن مليونيرا.. كلاهما لا يعني الكثير، أما ما يعني فهو أن تكون فقيرا ذا أقارب أغنياء، وهذا هو البلاء نفسه.
المتنبي:
ومن عرف الأيام معرفتي بها — فليس بمرحوم إذا ظفروا به
وبالناس روى رمحه غير راحم — ولا في الردى الجاري عليهم بآثم
بحث المتنبي طويلا عن صديق حقيقي يفهمه ويسنده ويقف إلى جانبه في الملمات والشدائد، إلا أن مسعاه انتهى إلى لا شيء، وهو ما أحزنه كثيرا، بحيث دفع به إلى غياهب الوحدة والانكفاء على الذات.
صور المتنبي معاناته وخيبة أمله في الحصول على صديق حقيقي في أبيات رائعة قائلا:
أما في هذه الدنيا كريم — أما في هذه الدنيا مكان
تزول به عن القلب الهموم؟ — يُسَرُّ بأهله الجار المقيم؟
فلسفته في الحياة: بعد أن فقد المتنبي ثقته بالناس، لجأ إلى نفسه وإلى ذاته يخاطبها قائلا:
خليلك أنت لا من قلت خِلِّي — وإن كثر التجمل والكلام
أحمد أمين: (وكانت مأساة العمادة أنني فقدت بها صداقة صديق من أعز الأصدقاء وما أقلهم)
يقول أحمد أمين: وعلى صخرة المصالح تفقد الكثير من العلاقات الإنسانية بريقها ووهجها، إذ سرعان ما تبرز الحقيقة ساطعة قوية إلى السطح، وحينها يكشر الواقع عن وجه قبيح، تذهب معه كل المعاني النبيلة والمبادئ الرفيعة..
“…كانت مأساة العمادة إنني فقد بها صداقة صديق من أعز الأصدقاء، وما أقل عددهم، كان يحبني وأحبه، ويقدرني وأقدره، ويطلعني على أخص أسراره وأطلعه، وأعرف حركاته وسكناته ويعرفها عني، ويشاركني في سروري وأحزاني وأشاركه، وكنت هواه وكان هواي، واستفدت من مصادقته كثيرا من معارفه وفنه ووجهات نظره، سواء وافقته أو خالفته، فأصبح يكون جزءا من نفسي، ويملأ جانبا من تفكيري ومشاعري، على اختلاف ما بيننا من مزاج، فهو أقرب إلى المثالية، وأنا أقرب إلى الواقعية، وهو فنان يحكمه الفن، وأنا عالم يحكمه المنطق، وهو يحب المجد ويحب الدَّويَّ، وأنا أحب الاختفاء وأحب الهدوء، وهو مغالٍ إذا أحب أو كره، وأنا معتدل إذا أحببت أو كرهت، وهو نشيط في الحكم على الأشخاص وعلى الأشياء، وأنا بطيء، وهو عنيف إذا صادق أو عادى، وأنا هادئ إذا صادقت أو عاديت، وهو واسع النفس أمام الأحداث، وأنا قلق مضطرب غضوب ضيق النفس بها، وهو ماهر في الحديث إلى الناس، فيجذب الكثير، وليست عندي هذه المقدرة، فلا أجتذب إلا القليل، وهو في الحياة مقامر، يكسب الكثير في لعبة، ويخسره في لعبه، وأنا تاجر إن كسبتْ كسبتُ قليلا في بطء، وإن خسرتْ خسرت قليلا في بطء، يحب السياسة؛ لأنها ميدان المقامرة، وأنا لا أحبها إذ لا أحب المغامرة، ولعل هذا الخلاف بيننا في المزاج هو الذي ألف بيننا، فأشعره أنه يكمل بي نقصه، وأشعرني إني أكمل به نقصي، جاءت العمادة مفسدة لهذه الصداقة؛ لأنه بحكم طبيعته – أراد أن يسيطر، وأنا بحكم طبيعتي أردت أن أعمل ما أرى؛ لأني مسؤول عما أعمل، ثم ولي منصبا أكبر من منصبي، يستطيع منه أن يسيطر على عملي، فأراد السيطرة وأبيتها، وأراد أن يحقق نفسه بأن ينال من نفسي فأبيت إلا أن أحتفظ بنفسي، فكان من ذلك كله صراع أصيبت منه الصداقة، فحزن لما أصابها وحزنت، وبكى عليها وبكيت”.
غادة السمان: (إنني أمسك بالأفاعي، ولم يحدث أن لدغتني مرة.. عكس البشر)
تقول غادة السمان: أنا لا أتحدث عن ذكريات “الحلو بدل المر” من باب كرم الأخلاق، وإنما من باب الاحتماء من اليأس، فغدر بعض الناس – الأحباب خصوصا مؤلم؛ لأنه يزلزل ثقتنا بالحياة نفسها، وبجدواها، صحيح إن هذا الغدر يثير الشهية إلى المقاومة والقتال والتحدي لدى النساء من نمطي، ولكنه يظل يخلف في النفس حزنا مالحا له مذاق البكاء السري. إنني أجد (السرطان الكائن البحري) لطيف الشكل وعَذب المَعشر أكثر من عدد كبير من البشر الذين يحدثونك (بالشوكة والسكين) وقلوبهم معقمة ضد الود الحقيقي.
أما فلسفتها: “إن قدرتي على أن أكون وحيدة هي الصداقة الأولى في حياتي؛ لأن الإنسان لا يكون وحيدا قد حينما يكتشف ذلك الإيقاع الداخلي بين ضربات قلبه وضربات قلب التراب والليل والبحر، وكل ما هو شاسع ونقي”.
زكي نجيب محمود: (كان والدي لا يخشى الناس، ولا يفر منهم، أما والدتي فكانت تخشاهم وتفر منهم)
يشير كثير من علماء النفس إلى أهمية مرحلة الطفولة والسنوات الخمس الأولى منها في تشكيل وتحديد مستقبل الإنسان.
لكن الأذن ودوارها، والعين وعشاها، والساق وعرجها، لم ينل منه عشر معشار ما ناله من غدر الأصدقاء… أصدقاء؟ يا لها من كلمة يسهل جريانها على اللسان، ثم ندير الأبصار بحثا عما تعنيه الكلمة بين الناس، فإذا هي إذا أشارت إلى شيء فإنما تشير إلى دخان قاتم، يسد الأنوف والحلوق، فلا تتنفس الهواء الطلق في نقائه، أحسب أن الصداقة قد سميت باسمها هذا لما فيها من الصدق، فماذا لو تكشف لك صديقك المزعوم عن كذب سبقه كذب ولحق به كذب.
أما فلسفته: “اخرج من سجن نفسك إلى الطبيعة، وإلى الناس من حولك، وكن على يقين أن الحوائل الموهومة التي تصدك عن السير والحركة كثيرا ما تكون قضبانا من ضوء”.
طه حسين: (كان الأصدقاء الذين فرضوا أنفسهم على طه كريهين، مزعجين، متطفلين بشكل غير عادي)
يقول طه حسين: “…فالصداقة قرابة غير قرابة الدم، قرابة الدم شيء نرثه عن آبائنا وأجدادنا، لكن قرابة الصداقة حب نسج خيوطه من دقات القلوب، ورموش العيون، وتصافح الأيادي، ويثبت حب الصداقة مرور الأيام والليالي وكذلك المناسبات السعيدة وغير السعيدة، الأفراح والأزمات، حيث يجد الواحد منا واحدا على جواره وكأنه ظله يمشي معه”.
ثانياً – اكتشاف إنسان
يقول فولتير: “فليحفظني الله من أصدقائي، أما أعدائي فأنا كفيل بهم”.
يقول سارتر: “الجحيم هو… الآخرون”.
يقول فيثاغورس: “إذا اختبرت إنسانا فوجدته لا يصلح أن يكون صديقا فاحذر من أن تجعله لك عدواً”.
ويقول المثل الروسي: “تصادق مع الذئاب على أن يكون فأسك مستعداً”
ويقول وهيب بن الورد: “خالطت الناس خمسين سنة، فما وجدت رجلا غفر لي ذنبا، ولا وصلني إذا قطعته، ولا ستر علي عورة، ولا ائتمنته إذا غضب، فالاشتغال بهؤلاء حمق كبير”.
وقيل لعروة بن الزبير لما اتخذ داره في العقيق: …لمَ تركت الناس؟ قال: “لأن ألسنتهم لاغية، وأسماعهم صاغية، وقلوبهم لاهية”.
وحين سئل الخليفة علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: كم صديقا لك؟ قال: “لا أدري الآن.. لأن الدنيا مقبلة علي، والناس كلهم أصدقائي.. وإنما أعرف ذلك إذا أدبرت عني.. فخير الأصدقاء من أقبل إذا أدبر الزمان عنك”.
وسئل حكيم: من الذي يسلم من معاداة الناس؟ قال: “من لم يظهر منه لا خير ولا شر”، قيل له وكيف ذلك؟ قال: “لأنه إن ظهر منه خير، عاداه الأشرار.. وإن ظهر منه شر عاداه الأخيار”.
سأل الإمام أحمد بن حنبل حاتمَ الأصم وكان من الحكماء: كيف السبيل إلى السلامة من الناس؟ فأجاب حاتم: “تعطيهم مالك، ولا تأخذ من مالهم، ويؤذونك ولا تؤذهم، وتقضي مصالحهم ولا تكلفهم بقضاء مصالحك” قال الإمام أحمد: إنها صعبة يا حاتم، قال حاتم: “وليتك تسلم”.
ووصف الخليفة العباسي المأمون الناسَ بأنهم ثلاثة: “أحدهم كالهواء لا يستغنى عنه، وثانٍ كالدواء لا يحتاج إليه إلا في بعض الأوقات، وثالث كالداء، لا يحتاج أبداً أبداً”.
ويقول طاغور: “ابحث في الناس عن مزاياهم، وابحث في نفسك عن عيوبك، تكن أحكم الناس”.
إضافة..
الناس أشرارا كانوا أم أخيارا.. فنحن لا نعيش بدون الناس، حتى أنك تسعى إليهم، فالإنسان كائن اجتماعي مهما كره الواحد منهم الآخر.. فسيبقى جاهلا لسبب تمسكه بالناس، ربما لمصلحة، لسلوى، لدفء علاقة… لا تتطلع أن تفهم السبب، فبدون الناس يشعر الإنسان بالبرد، بالكآبة، ويبقى جاهلا لسبب تعلقه بهم، يطالبهم أن يقدموا له المحبة، وإن لم يمنحهم إياها، ويكرر المطالبة دون حياء، ربما هذا هو الإنسان.. إنسان بحاجة إلى إنسان، لا بل للناس، حتى لو لم يحبهم، أو حتى لم يبادلونه تلك المحبة، إذا تعال نتقبل الناس مثلما هم، بمذمومات أخلاقهم، ونأخذهم بمحمودها أيضا، فكما للناس عورات وعيوب كذلك أنت وأنا..
أين الحقيقة؟
يقول فاروق جويدة:
“ومشكلة الناس الآن.. أن أقنعتهم كثيرة.. ما أكثر الوجوه التي تحاول أن تحمل ملامح التسامح والبراءة والنبل، وهي تخفي في أعماقها كل مظاهر القبح والأنانية..
ولهذا نحاول أن نسلك طرقنا وسط هذه الأقنعة، تخدعنا أحيانا، وتستميلنا أحيانا أخرى، ولكننا في نهاية كل مشوار مع صديق مخادع نضع أيدينا على وجوهنا ونبكي.. هل نبكي العمر الذي ضاع؟ أم نبكي الصديق الذي هنا عليه فهان علينا؟ أم نبكي أخطاءنا التي لا نتعلم منها.. ولا ننساها.. ولهذا لا ينبغي أن نحاسب أصدقاءنا بمقاييس لا نقبلها لأنفسنا.. إننا جميعا بشر، وفينا كل مظاهر الجمال والقبح، والخير والشر، والفضيلة والرذيلة، ومن الخطأ أن نرى في أنفسنا الجمال فقط، ولا نحاول أن نراه في وجوه الآخرين، ومن الخطأ أيضا أن نرى أخطاء الآخرين ولا نرى أخطاءنا، ولهذا يجب أن نرى أصدقاءنا في بعض الأحيان بعيون محايدة، نرى فيهم الحسنات والسيئات، وإذا كنا نطلب منهم أحيانا أن يغفروا أخطاءنا، فيجب أن تكون لدينا القدرة على أن نغفر أخطاءهم.
أنا لا أحزن على صديق باعني، ولا أندم على شخص خدعني؛ لأن الخداع طبع، وإذا لم يكن قد خدعني في البداية فلا بد أن يخدعني في النهاية، وربما كان اكتشاف الأشياء في بدايتها أفضل، مثل بعض الأمراض الخبيثة التي يكون من حظ الإنسان أن يعرفها في بدايتها حتى يتخلص منها. فصديق السوء مثل المرض الخبيث، من الأفضل أن تقتلع جذوره حتى يمكن للحياة أن تستمر.
والأصدقاء ليسوا بأعدادهم، فقد يكون معنا شخص واحد يساوي الآلاف، وقد لا نجد الألفة والثقة وحولنا المئات، وأفضل اختبارات الصداقة شيئان: المواقف والزمن. إن المواقف هي وحدها القادرة على اختبار معادن الأصدقاء، فهناك نستطيع أن نعرف الصادق من المزيف، ومن يصادقنا لغرض في نفسه، ومن يصادقنا حبا ووفاء.
الموقف: إن الموقف الواحد يستطيع أن يدفع بالصداقة عشرات الخطوات إلى الأمام، وموقف آخر يلقي بها إلى الجحيم.
أما الزمن: فهو الاختبار الدقيق لكل العلاقات الإنسانية سواء كانت حبا أو زمالة أو صداقة، إنه الاختبار الأصعب الذي لا ينجح فيه إلا أصحاب القدرات الخارقة، وقد علمتني الحياة ألا أندم على شيء ضاع مني في هذا الزمن، فما أكثر ما ضاع، وما أكثر ما سيضيع، إنها محنة الباحثين عن الصدق في هذه الحياة، والأصدقاء ليسوا أول من باعوا. لقد باعنا قبلهم كثيرون.
————————-
الكتاب: الإنسان كما أعرفه.
المؤلف: محمد إبراهيم الماضي
مطابع الحميضي – الرياض، 2005